ما العلاقة الموجودة بين الإحساس والإدراك. (خاصة بالآداب والفلسفة)


ما العلاقة الموجودة بين الإحساس والإدراك.

مقدمة:تعتبر مشكلة إدراك العالم الخارجي من بين المشكلات الفلسفية التي اهتم بها الفلاسفة منذ القديم،ذلك أن علاقة الإنسان بالعالم الخارجي ضرورية لتكيفه ومعرفة الحقائق التي تحيط به،ولا يتم ذلك إلا من خلال مجموعة من الآليات التي تكون واسطة بين الذات الإنسانية والموضوع الذي يكون محل بحث وتقصي،ومن بين هذه الآليات عمليتي الإحساس والإدراك،ولكي نعرف العلاقة الموجودة بينهما سنحاول إثارة التساؤل التالي:ما هي أوجه الاختلاف وأوجه التشابه وأوجه التداخل الموجودة بين الإحساس والإدراك؟

أوجه الاختلاف:
توجد نقاط تباين واختلاف بين الاحساس والإدراك وهي :
من حيث المفهوم نجد أن الإحساس في رأي علم النفس التجريبي حادثة أولية وبسيطة ؛ والحواس هي الأداة الوحيدة التي تربط الكائن الحي والإنسان بالبيئة والعالم الخارجي ، وبهذا تحصل المعرفة ويتمّ التكيف .و يعرفه جميل صليبا  بقوله الإحساس حادثة نفسية أولية ، وهو إما أن يكون انفعالياً ، أو عنصراً من الحياة العقلية... فكل انفعال نفسي ينشأ عن تبدل عضوي .. أو هو صدى التبدلات الجسدية وانعكاس آثارها على الشعور «

أما مصطلح الإدراك فيطلق على مجمل العمليات التي تبدأ من محاولة تفسير المؤثّر إلى معرفة طبيعته وصفاته المعقدة ، وبذلك فهو بتعريف أنطوان مقدسي في كتابه( مبادىء الفلسفة) أن الإدراك هو « العملية النفسية التي يتمّ بواسطتها الاتصال بيننا وبين العالم الخارجي ومعرفة الأشياء في هذا العالم . وهو تابع لاهتماماتنا ولقدراتنا العقلية»

وإذا كان الإحساس عملية فيزيولوجية والإدراك عملية عقلية نفسية لابد لنا من تحديد خاصية كل عملية وهي:
من بين خصائص الاحساس الطابع الأوّلي البسيط لعمل الإحساس : فهو لا يحتاج إلى واسطة بين المؤثّر والعضوية )أي بين الصوت وانفعال حاسة الأذن( ، بل يتمّ بطريقة أوّلية ومباشرة , دون أن يُفهم من ذلك انتقال المؤثّر بمادته كما هي"..فالإحساس هو قبول صورة الشيء )المحسوس( مجرّدة عن مادته فيتصور بها الحواس ." وبعبارة أوضح"..أن عضو الحسّ يقبل صورة المحسوسات دون مادتها ، كما يقبل الشمع صورة الخاتم دون الحديد أو الذهب "
 آلية الإحساس ثلاثية التركيب : لا بدّ أوّلا من وجود الشيء المؤثّر)الهاتف( والذي أحدث رنينه اهتزازات وموجات في الهواء ، وهناك ثانياً) أذني( كحاسة انتقل إليها ذلك الأثر الفيزيائي فنبّه الأعصاب التي سجلته وحولته إلى المراكز الدماغية المتخصصة ضمن نشاط فيزيولوجي معقّد يؤدي ، ثالثا ، إلى شعور باطني واستجابة تلقائية بـ )الإقدام أو الترك( .

الإحساس متنوّع بتنوّع قنواته : يتبع الإحساس الحاسة الخاصة به .ويبدو أن صاحبنا في الواقعة السابقة كان في حاجة إلى وظيفة جميع حواسه المعروفة تقليدياً وهي خمس فلم يكتف بالتحديق والنظر،بل استأنس بقنوات أخرى للإحساس كسماع آراء الآخرين ، وتقليبه باللمس الخفيف ، علاوة على شمّ رائحته ، وأخيراً تذوقه . وتخلل كل ذلك إحساس بحركة الأطراف الخارجية ،وبالقلق ثم الاطمئنان على صعيد حشوي و باطني .

الإحساس واحد ومشترك في جميع أنواعه : ذلك أنه كان بمقدور صاحبنا في المثال الاكتفاء بنوع أو نوعين فحسب لتحقيق ذات النتيجة : فقد يؤدّي الإبصار وحده أو الذوق فقط- أوكلاهما معاً- إلى الإحساس بغرابة الموقف .ولكنه أمعن في تسخير جلّ حواسه له ، مما يثب أن حواسنا- بالرغم من تنوّعها-تشترك جميعها في آلية التركيب وكيفية الحدوث .

وأن الإدراك،لكونه يحمل الخصوصية الإنسانية ، فهو يحمل أخص هذه الخصوصية أي العقل ويعبر روني ديكارت في كتابه( تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى) ما نصه:»...وإذن فأنا أدرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت أحسب أن أراه بعيني» ومعنى ذلك ، أننا ندرك الشيء كما هو ، لا كما يُرى ؛ وكمثال فتلويح السيّدة للبواب عن بعد طلباً للمساعدة لم يجعلها تخطىء معرفته لمجرد أن صورته البصرية انعكس على الشبكية بحجم أصغر من صورته وهي تمرّ بمحاذاته عند المدخل.

يمكن استنتاج خاصيتين للإدراك كملكة عقلية :أن آلية الإدراك الذهنية تقوم دائماً عند جميع الناس على مرحلية ثلاثية متكاملة :
* الصورة الإجمالية)أو التلفيقية : ( هي صورة أوّلية غامضة بوجود علاقة ما بين الأصوات . * التحليل)أو التفكيك : ( أي إدراك العلاقات القائمة بين أجزاء الشيء المدرك )الأصوات . ( التركيب)أو إعادة التأليف : ( هو بمثابة الصورة الكلية التي تمكّن من ربط الأجزاء بالمجموع .
* أن آلية الإدراك الذهنية تستوجب الاستعانة بالوظائف العقلية العليا بنسب مختلفة ؛ ولذلك قال هنري برغسون:»... الإدراك تذكر»

كل إدراك تابع للعوامل المشكلة له ،و تتحكم فيه عوامل ثلاثة متكاملة :
عوامل نفسية وعقلية : تتعلق بذات المدرِك وتفسّر تباين الإدراك في الموقف الواحد من شخص إلى آخر ، مثل : الاتجاه النفسي)أوالميل( ، والتهيؤ )أو
الانتباه والتوقع( ، والتعاطف ، والكب والإسقاط .
عوامل موضوعية وبيئية : لها صلة بالموضوع المدرَك وتأثيره على تنوع
الإدراكات لدى الشخص المدرِك ، ومنها : الشكل والأرضية ، والتشابه والتقارب، والضوء والظل والحركة
عوامل اجتماعية وثقافية : وهي ذُعنى بتأثير المكتسبات الاجتماعية والثقافية في تعيين طبيعة إدراكاتنا، ومن أبرزها : الوضع الاجتماعي، والقيم، والتقاليد والأعراف.

أوجه التشابه:

إن نقاط الاختلاف والتباين الموجودة بين مفهومي الإحساس والإدراك لا تمنعنا من تحديد نقاط التشابه والاتفاق بينهما وهي:

كل من الإحساس والإدراك عمليتان من عمليات تواصل الإنسان مع العالم الخارجي،فبدونهما لا يمكن للإنسان التكيف مع المحيط الذي يعيش فيه،كما أن العالم الداخلي الذي يمثل الذات الإنسانية سيبقى مجهولا ومنعزلا إذا ما نفينا العمليات الفيزيولوجية والعقلية وأخصهما الإحساس والإدراك.

وهما يعملان معا في تزويد الإنسان بحقائق العالم الخارجي،إذ هو مثل الغرفة المظلمة وعمليتي الإحساس والإدراك يشبهان النافذة والمصباح إذ بدونهما لا نستطيع التمتع بضوء الشمس أو بنور المصباح،لهذا كانا وسيلتين من وسائل اكتساب المعرفة وبنائها حول هذا العالم الخارجي.



أوجه التداخل:
إن نقاط التباين والاختلاف ونقاط التشابه والاتفاق مكنتنا من تحديد علاقة التداخل الموجودة بين الاحساس والإدراك،إذ هما عمليتين ذات علاقة تداخل وظيفي ولا يمكن الفصل بينهما مهما حاولنا التركيز على التعريف الاصطلاحي لكل منهما،ذلك أن اشتراكهما في جوهر واحد هو الإنسان جعلهما وجهين لعملة واحدة وهي تزويد الذات الإنسانية بحقيقة العالم الخارجي والتعرف عليه،كما أن الاحساس يقدم للذات الإنسانية الانطباعات الحسية الأولى حول هذا العالم،أما الإدراك فيقوم بعملية تأويل وتفسير وتنظيم تلك الاحساسات فيحصل الإنسان على المعرفة الخالصة التي تمكنه من التكيف مع هذا العالم الخارجي والاندماج معه،وهذا ما عبر عنه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط بقوله: «... الإحساسات و الأفكار هي خدم لنا تنتظر دعوتنا ولا تأتي إلى أذهاننا إلا إذا احتجنا إليها »

الرأي الشخصي:
إني أرى بدوري أنه توجد علاقة اتصالية وظيفية و متبادلة بين الإحساس والادراك ولا يمكن الفصل بينهما،إذ تعمل الحواس على التواصل مع العالم الخارجي وتزويد العقل بكل المعلومات حول الموضوع المدرك،أما الادراك فيعمل على تنقيح ومعالجة تلك المعارف الحسية لتصبح جميع ادراكاتنا حول العالم الخارجي مهيئة للإنسان كي يوظفها من أجل التكيف والاندماج مع العالم الخارجي،حيث يقول إيمانويل كانط: «... إن الإدراكات الحسية بغير المدركات العقلية عمياء ، و المدركات العقلية بغير الإدراكات الحسية جوفاء»

خاتمة:نستنتج من خلال التحليل السابق أنه توجد علاقة تداخل وتفاعل وظيفي بين الإحساس والإدراك ولا يمكن الفصل بينهما،على الرغم من اختلافهما في التعريف إلا أن وظيفتهما تلتقي وتتداخل كعملية واحدة وهي تمكين الذات العارفة من اكتساب وبناء معرفة حول الموضوع المدرك وهو العالم الخارجي.

تعليقات

  1. لماذا لا يمكن الفصل بين الإحساس والإدراك

    ردحذف
    الردود
    1. لان قضية الفصل بين الاحساس والادراك قضية تقليدية طرحتها المدارس الكلاسيكية خصوصا مع المدرسة العقلية والحسية ،أما المدارس المعاصرة مثل المدرسة الفينومينولوجية والجشتالتية تجاوزوا هذا الطرح.

      حذف
    2. ممكن تفهمني كيفاش تصنف الأسإلة في هاذ الدرس

      حذف
  2. بارك الله فيك

    ردحذف
  3. بارك الله فيكم

    ردحذف
  4. شكر اتمنى ان يوقني ربي واتحصل على الباك والجميع انشاء الرحمان بمعدل فخر واعتزاز

    ردحذف
    الردود
    1. لي ولكم ان شاء المولى

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل الذاكرة ذات طبيعة مادية أم نفسية؟

قارن بين العلم والفلسفة (خاصة بالعلميين واللغات)

هل معيار الحقيقة العمل النافع أم تأمل الإنسان لعالمه الداخلي؟