هل يجب تشكيل قطيعة مع الأفكار المسبقة لبناء المعرفة العلمية أم لا؟ خاص بالعلميين واللغات و2أداب وفلسفة
مقدمة:
إن الإنسان في علاقته مع اليومي يحاول بناء معارفه
الخاصة التي تمكنه من التكيف مع الواقع المعاش في إطار ثنائية الذات والموضوع،غير
أن الحقيقة التي يتوصل إليها الإنسان تصبح أفكارا مسبقة كلما تقدم تاريخ المعرفة
الإنسانية،إلا أن قيمة الأفكار المسبقة قد أحدثت جدلا بين الفلاسفة
والعلماء،فانقسموا إلى رأيين،فالرأي الأول يؤكد على إيجابية الأفكار المسبقة في
بناء المعرفة العلمية وبالتالي الأخذ بها،أما الرأي الثاني فأكد على سلبية الأفكار
المسبقة في بناء المعرفة العلمية وبالتالي عدم الأخذ بها،ولتجاوز هذا السجال
الفلسفي بينهما سنقوم بإثارة التساؤل التالي:هل الأفكار المسبقة ضرورية لبناء
معرفة ذات قيمة علمية أم لا؟ وبعبارة أخرى:هل يجب على العلم تجاوز الأحكام
المسبقة؟
الموقف الأول:يرى أنصار الموقف الأول أنه لا يجب تشكيل
قطيعة مع الأفكار المسبقة لبناء المعرفة العلمية وهذا ما ذهب إليه أوغست كونت،
هنري بوانكاريه،جيمس فريزر،وقد اعتمد أصحاب هذا الرأي على مجموعة من الحجج أهمها:
يرى أوغست كونت أن المعرفة البشرية ذات علاقة
متصلة ولا يمكن تشكيل قطيعة بين الأفكار المسبقة والأفكار الحاضرة،ذلك أن تفكير
الإنسانية قد مر بثلاث مراحل متواصلة وهي :المرحلة اللآهوتية:التي ان فيها
الإنسان يفسر كل شيء بإرجاعه إلى الأسباب الأولى والغائية المتمثلة في التفكير
الديني،حيث سعى الإنسان إلى الحصول على المعارف المطلقة ثم المرحلة
الميتافيزيقية:التي كان يفسر فيها الإنسان كل شيء تفسيرا فلسفيا،وأخيرا المرحلة
الوضعية :أين أصبح التفسير يتوقف على القوانين العلمية المبنية على الاستدلال
التجريبي بخطواته العلمية. وفي السياق ذاته أكد كوندورسي على أن تقدم الفكر
الإنساني وتقدم المعرفة البشرية وتقدم العلوم والتقنية من جهة والمجتمعات من جهة
أخرى كل ذلك ليس سوى مظهرا واحدا لحركة واحدة بعينها،هي حركة الفكر والمجتمع،بمعنى
أن الفكر ينمو ويتطور بفضل المجتمع الذي يبنيه سواء على أنقاض معارف سابقة أو
جديدة دون قطع الصلة مع الماضي.ويعتقد ماكس شيلر أن آفاق المعرفة وأنواعها
راجعة إلى اختلاف المجتمعات وتنوعها ذلك أنه لكل نوع من المجتمعات ولكل جماعة
اجتماعية ولكل عصر حضاري نوعا خاصا من الأفكار والقيم.
ويؤكد جيمس فريزر أن المعرفة العلمية نشأت نشأتها
الأولى في أحضان السحر باعتباره مجموعة من الأفكار المسبقة التي كان يمارسها
القدماء من أجل التأثير بصورة غيبية على مجريات الحوادث،ذلك أن في السحر إيمان
بالحتمية الكونية التي يقوم عليها العلم ورغبة في تسخير الطبيعة لفائدة الإنسان
كما يرغب في ذلك العلم،وقد استطاع السحر أن يكتشف الكثير من أسرار العناصر التي
تبنتها المعرفة الوضعية،وكمثال عن ذلك نجد أن الكيمياء تطورت بفضل مبادئ الخيمياء
(علم تحويل المعادن الرخيسة إلي نفيسة)،وعلم الفلك بفضل علم التنجيم.
أما هنري بوانكاريه فيرى أن المعرفة العلمية إنما يمكنها
الأخذ بالأحكام المسبقة مادام أن الناس يشتركون في مبادئ عقلية تمكنهم من
الاستدلال رغم الاختلافات التي نلمسها في ابداعاتهم إلا أنها لا تمنعهم من التواصل
فيما بينهم أو نقل تلك المعارف وإخضاعها من جديد للأحكام العقلية والاستدلالية
لهذا يقول: :«...إن ما يضمن لنا موضوعية العلم الذي نعيش فيه هو كون هذا العالم
مشتركا،نشترك فيه مع كائنات مفكرة أخرى،فعن طريق الاتصال الذي يتم بيننا وبين
الناس الآخرين نتلقى منهم استدلالات جاهزة.إننا نعرف أن هذه الاستدلالات غير صادرة
عنا ،وفي نفس الوقت نتعرف فيها عمل كائنات مفكرة مثلنا »
نقد:لقد بالغ أصحاب هذا الرأي فيما ذهبوا إليه من تأكيدهم
على عدم تشكيل قطيعة مع الأفكار المسبقة لأن العقل لا يتقبل الأفكار المتناقضة
والتي لا تتوافق مع قوانين المنطق والتجربة العلمية القائمة على النقد والشك
المنهجي.
الموقف الثاني:يرى أنصار الموقف الثاني أنه يجب تشكيل
قطيعة مع الأفكار المسبقة لبناء المعرفة العلمية وهذا ما ذهب إليه روني
ديكارت،باسكال،كلود بيرنار،غاستون باشلار، وقد اعتمد أصحاب هذا الرأي على مجموعة
من الحجج أهمها:
يؤكد روني ديكارت أنه يجب على التفكير العلمي أن
لا يستند إلى سلطة الآخرين في عرض المسائل
العلمية باعتبارها تعيق تقدم المعرفة العلمية وبالتالي فالحقائق لاتوزن إلا بميزان
العقل حيث قال:«...ومن مبادئي أن لا أسلم بصحة شيء إلا إذا عرفت صحته ببديهة
العقل»
كذلك يؤكد باسكال على أن الذين يستندون إلى آراء
الآخرين في البرهان على مسائل العلوم مثل الفيزياء بدلا من أن يستندوا إلى العقل
والتجربة يخرجون من حظيرة العلم،أما كلود بيرنار اعتقد أن التحرر من سلطة
الآخرين في تفهم المسائل العلمية إنما هو
مبدأ أساسي من مبادئ الطريقة التجريبية ،فالفكر العلمي يجب أن يكون حرا في
بحثه،مستقلا في استقصائه،وأن لا يتقيد بأية سلطة مهما كان نوعها وأن لا يعترف
بحاكم سوى حاكم العقل والتجربة. ويقول كلود بيرنار:«...إذا صادفت في تجاربك
حادثة متناقضة الظواهر بحيث لا يمكنك ربطها ربطا ضروريا بإحدى شرائط الوجود
المعينة فلا تتأخر عن تكذيبها،لأن العقل يرد هذه الحادثة ويعدها غير علمية»
ويؤكد غاستون باشلار على أن الأفكار المسبقة تعيق
تقدم المعرفة العلمية لأنها مبنية على أحكام أولية ساذجة وبالتالي يميز بين
التفكير العامي والتفكير العلمي،ذلك أن التفكير العامي ساذج ويمثل المرحلة قبل
العلمية حيث سيطرت الطبيعة على الإنسان الذي وقف عاجزا أمامها فمثلا ظاهرة الرعد
كانت ترهب الناس فتفسد حفلا موسيقيا ،لأن في هذه المرحلة لم يستطع العقل الإنساني
تشكيل قطيعة مع الأحكام المسبقة لمعرفة أسباب الرعد باعتباره ظاهرة طبيعية عادية. حيث
يقول باشلار:«...إن البداهة الأولى ليست حقيقة أساسية،والواقع أن الموضوعية
العلمية ليست ممكنة إلا إذا سبقها قطع الصلة مع الموضوع المباشر(...) وإلا إذا وضع
حد للأفكار التي تولدها الملاحظة الأولى وإلا إذا عورضت هذه الأفكار(المسبقة)»
نقد:لقد بالغ أنصار هذا الموقف فيما ذهبوا إليه من أنه يجب
تشكيل قطيعة مع الأفكار المسبقة لبناء المعرفة العلمية،في حين أن تاريخ العلوم أكد
على أن القطيعة تكون مع جزء فقط من الأفكار المسبقة التي تكون عير قابلة للمنطق
العقلي وليس كلها،ذلك أن الكثير من العلوم تطورت بفضل أفكار عامية بسيطة مثل الطب
الذي تطور بفضل الطب الشعبي القديم.
الموقف الثالث:يرى أنصار الموقف الثالث أن الأفكار المسبقة
ضرورية لبناء المعرفة العلمية مع مراعاة الجانب النقدي للعقل من خلال الأساليب
التحليلية وتجاوز الأفكار الخرافية بالعقلانية،لأن المعارف الإنسانية تتطور بفضل
عقلية المجتمع الذي يبدعها فمثلا كانت الفلسفة أم العلوم،والعلم كان مجموعة من
المعارف ولما استقل العلم عن الفلسفة بالمنهج العلمي كان المجتمع في حاجة إلى المعرفة
العلمية على اعتبار أن المجتمع ارتقى من التفكير الميتافيزيقي إلى التفكير العلمي
وما لبث أن اجتمعت الفلسفة بأفكارها مع العلم مشكلين فلسفة العلوم كرؤيا تركيبية.
الرأي الشخصي: إني أرى بدوري أن الأفكار المسبقة ضرورية
لبناء المعرفة العلمية مع إخضاعها للنقد والتحليل المنطقي ذلك أن تاريخ العلم قيم
من حيث جهود البشرية المتمثلة في الإبداعات الإنسانية التي تكون على شكل خبرات،
فالمعارف عامة تخضع للموضوع الواقعي الذي يكون المرجع المشترك بين الإنسان كذات
تتطلع لاكتساب المعرفة وبين الحقيقة التي يتركها وراءه لتتطلع عليها المجتمعات
اللاحقة،ويمكننا الاستدلال بقول سالم يفوت: «...من الإحساس إلى المعرفة
يوجد اتصال ابستمولوجي ولا يوجد انفصال أو قطيعة»
خاتمة:نستنتج من خلال التحليل السابق أن المعرفة
البشرية في حاجة إلى الأفكار المسبقة حتى تتمكن من بناء المعرفة العلمية مع الاعتماد
على المنهج النقدي الذي يمكننا من تجاوز العوائق التي تقف حاجزا أمام تطور المعارف
الإنسانية،والأفكار والمعارف عبارة عن خبرات إنسانية عاقلة تقوم بإنتاج أفكارها
وتطورها وفق ما يتوافق مع واقعها فتأخذ من ماضيها ما يفيدها وتترك ما تراه خاوي
المعاني.
تعليقات
إرسال تعليق