هل انطباق الفكر مع الواقع أوثق السبل إلى المعرفة ؟ خاص بـ:3ع ت،3ل أ،2أف.


هل انطباق الفكر مع الواقع أوثق السبل إلى المعرفة؟
مقدمة:يعتبر المنطق آلة ضرورية لضبط الفكر  وتوجيهه نحو الحقيقة التي يسعى الباحث للوصول إليها من أجل بلوغ أسرار العالم الخارجي وهذا المنطق نوعان منطق مادي يهتم بمادية الفكر، ومنطق صوري يهتم بصورية الفكر،غير أن قيمة الانطباق الفكر مع الواقع،أثارت جدالا بين الفلاسفة فالبعض منهم يعتقد أن المنطق المادي هو الموصل إلى  الحقيقة اليقينية،أما البعض الآخر اعتقدوا أن المنطق الصوري هو الموصل إلى الحقيقة اليقينية وليس المنطق المادي، ولتهذيب هذا التعارض الموجود بين الموقفين والفصل بينهما سنقوم بإثارة التساؤل التالي: هل الوصول إلى الحقيقة يكون عن  طريق المنطق المادي أو المنطق الصوري؟
الموقف الأول:يرى أنصار الموقف الأول وخاصة "فرنسيس بيكون" و "جون ستيوارت ميل" أن الوصول إلى الحقيقة يكون عن  طريق المنطق المادي وقد برروا موقفهم هذا بعدة حجج أهمها أن المنطق المادي يهتم بدراسة الظواهر الطبيعية لمعرفة أسبابها وهذه وفق خطوات المنهج التجريبي وهي:
 الملاحظة:وهي مشاهدة الظواهر على ما هي عليه في الطبيعة والملاحظة نوعان عامية أي (عادية)ملاحظة علمية(مسلحة)،والفرضية:وهي تفسير مؤقت للظاهرة المراد  دراستها إلى حين التأكد منها وهي تعود إلى عوامل داخلية وعوامل خارجية أما الأولى فتتعلق بالقدرات العقلية والحالة النفسية كالذكاء وخصوبة الخيال، قوة الذاكرة، دقة الملاحظة ،العبقرية ...الخ أما الثانية فتتعلق بالحاجة العلمية ذلك أن مختلف المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية... إلخ تدفع بالباحثين إلى إيجاد حلول  وبالتالي وضع  فرضيات،أما التجربة: فهي إحداث الظاهرة ضمن  شروط اصطناعية يحددها الباحث  وفي الأخير نصل إلى القانون العلمي والذي يعد  ضبط الظواهر الطبيعية ضبطا كميا بالاعتماد على رموز رياضة مثل 1000 درجة غليان الماء،ومن هذه الخطوات يمكن التحقق من أي نتيجة والتوصل إليها عن طريق التجريب كمرحلة تأكيدية تمكننا من البرهنة على صحة الوقائع المشاهدة والفروض المرفوعة والوصول إلى قانون عام وشامل يحكم جميع العناصر الجزئية،وكل هذا لا يتم إلا من خلال الاستقراء وذلك بالانتقال من الجزء إلى الكل كقانون مبني على تطابق الفكر مع الواقع،لهذا يقول فرنسيس بيكون: " هو استنتاج قضية كلية  من أكثر من قضيتين أو هو استخلاص من القواعد العامة من الأحكام الجزئية " كما أن لهذا الاستقراء قواعد وضعها ج. س ميل حتى تساعد الباحث على التفكير الصحيح وهي قاعدة التلازم في الحضور ومعناه أنه إذا حضرت العلة حضر المعلول مثل تبخر المياه  (علة) يؤدي إلى  سقوط الأمطار (معلول)، وقاعدة  التلازم في الغياب ومعناه أن إذا غابت العلة غاب المعلول مثل غياب تبخر المياه (علة) يؤدي إلى غياب سقوط الأمطار (المعلول)، وقاعدة التلازم  في الغياب النسبي ومعناه أن أي تغير يطرأ على العلة يؤدي  بالضرورة إلى تغير في المعلول  نظرا لعلاقة التلازم القائمة بينهما مثل كلما زاد الضغط على الغاز نقص حجمه (معلول) كلما نقص الضغط على الغاز ازداد حجمه (معلول)،وقاعدة البواقي ومعناه أن الباقي من  العلل للباقي من المعلولات مثل لدينا  مجموعة من العلل هي أ ،ب ،ج ،د  ولدينا  مجموعة من المعلولات ق، ك، ل، م، إذا كنا نعلم أن (أ) علة (ق) وأن (ب) علة (ك) وأن (ج)علة  (ل) فإن الباقي من العلل وهو (د) للباقي من  المعلولات وهو (م) .
كما يعتمد المنطق المادي على مجموعة من المبادئ يجب على الباحث أن يؤمن بها قبل التجربة وهي مبدأ السببية:ومعناه أن لكل ظاهرة سبب أو علة،وبالتالي لا يمكن أن يحدث أي شيء أو أن يوجد دون أن يكون له سبب أو علة تفسر حدوثه وهذا نظرا لارتباط العلة بالمعلول،ومبدأ الحتمية: ومعناه أن الأسباب والشروط نفسها تؤدي إلى النتائج ذاتها وانطلاقا من هذا المبدأ يمكن تعميم النتائج الجزئية كما يمكن التنبؤ بالظواهر لهذا يقول غوبلو: " إذا اعتبرت أن العالم متسق تجري حوادثه على نظام دائم وأن نظام العالم كلي عام لا يشد عما هو عليه " بمعنى أن العالم يحكمه النظام وظواهر مطردة كما يعتبر كلود بيرنارد أن الحتمية  أساس التفكير العلمي لذلك يقول: " إن مبدأ الحتمية مبدأ عام يشمل العلوم الطبيعية كلها لأنه ضروري لعلوم الأحياء كما هو ضروري لعلم الفيزياء و الكيمياء " كما يقول أيضا: " إن عالم لا تسوده الحتمية هو عالم موصد في وجه  العلماء، العلم بطبيعته حتمي" كما أكد  لابلاص  أن الإيمان بالحتمية لا يترك مجالا للصدفة أو الاحتمال لذلك يقول: " يجب علينا أن نعتبر الحالة الراهنة للكون نتيجة لحالته السابقة وسببا في حالته التي تأتي  بعد ذلك مباشرة " كما يرى أن بالإمكان  أن يصبح المستقبل والحاضر ماثلا  أمامنا اذا توفرنا على شروط ذالك من  ذكاء ومعرفة لحقائق الأمور وهذا ما أكد عليه هنري بوانكاري بقوله : "العلم حتمي وذلك بالبداهة فهو يضع الحتمية موضع البديهيات إذ لولاها لما أمكن أن يكون " وعليه يرتكز مبدأ الحتمية أيضا على مبدأ إطراد الظواهر وهو مبدأ  التوصل إليه العقل من خلال إدراك الارتباط المتتابع والمتكرر بين ظاهرة  وأخرى وأن في الطبيعة اتصال  لهذا فإن عدم الإيمان بهذا المبدأ يفضي إلى الإيمان بالفوضى في الكون.
نقد:لكن أنصار هذا الموقف قد بالغوا بدورهم عندما اعتبروا أن الوصول إلى الحقيقة يكون عن طريق المنطق المادي مهملين بذلك أهمية المنطق الصوري لأن العقل حتى ينطبق الواقع عليه أولا أن لا يتناقض  مع ذاته.
الموقف الثاني:يرى أنصار الموقف الثاني  وخاصة أرسطو وأبو نصر الفرابي وابن خلدون وأبو حامد الغزالي  أن الوصول إلى الحقيقة يكون عن طريق المنطق الصوري  وقد برروا موقفهم هذا بعدة حجج  حيث يعتبر  أرسطو  أن المنطق هو مجموعة من القوانين وظيفتها هي منع العقل من الوقوع في الزلل والمغالطات لذلك يعرفه بقوله: " المنطق هو علم التفكير الصحيح " وتظهر ضرورة هذه القوانين أنها جاءت كتصدي لما كان يمارسه السفسطائيون من مغالطات فكرية وهذا من خلال الدقة التي تلمسها الحدود التي تتألف منها القضايا بشكل خاص والاستدلال بشكل عام على اعتبار أن سبب المغالطات حسب أرسطو يكمن في غموض الحدود من جهة والعلاقات التي تربطها وتربط بين القضايا من جهة أخرى.
 وإذا كان الاستدلال يتألف من مجموعة من قضايا والقضية تنحل إلى حدود فإن أول أمر يجب أن يعرفه حتى تتمكن من بناء القضايا بناءا دقيقا ومن ثم بناء الاستدلالات هو العلاقة التي تربط الحدود فيما بينها من جهة وعلاقة الحدود بالتصورات من جهة أخرى حيث أن معرفة العلاقة بين التصور والحدود ومعرفة ماهية كل منها تمكن الباحث من التعبير  عن التصورات تعبيرا دقيقا لأن في غياب الدقة يسود الغموض وفيها يكون  العقل عرضه للوقوع في الخط وفي الوقت الذي يكون فيه جهل العلاقات التي تربط الحدود فيما بينها تقع مباشرة في الخطأ على اعتبار أن القضية تتألف من حدود وتربطها علاقة تعبر عن حكم معين حيث لا يصح أن نبني  استدلالا  من  قضية تجمع بين حدين متناقضين هذا بإضافة إلى أن ضرورة هذه القوانين تظهر من جهة أخرى في  ضبط المفاهيم على اعتبار أن أي محاولة للبحث في مجال من المجالات لا تنطلق من ضبط المفاهيم الخاصة بالموضوع المدروس تفتقر للدقة كما أن جهل مفهوم الشيء ينتهي بنا إلى الخطأ وضبطه بشكل غامض يترتب عنه أيضا خطأ وعليه فإن الباحث يجد في قواعد التعريف التي حددها أرسطو وسيلة لضبط المفاهيم ضبطا دقيقا وما عبر عن أهميتها هو اعتماد مختلف العلوم قواعد التعريف المنطقي خاصة قاعدة التعريف بالجنس والفصل  النوعي فالدائرة على سبيل المثال يعرف على أنها (الدائرة، مجموعة من النقاط التي تشكل حيزا مغلقا (جنس) تبعد بنفس المسافة عن نقطة المركز (الفصل النوعي) ) لهذا فإن التماسك الذي تتميز به الرياضيات التي تعتبر من أدق العلوم مدين للمنطق وقوانينه بذلك، كما أن المنطق يرمز إلى تباين أسباب الوقوع في الخطأ ويبين لنا كيف تتسرب الأخطاء إلى أحكامنا وتصوراتنا واستدلالاتنا ومن ثم يمكننا أن نتجاوز هذه الأخطاء وعلى هذا الأساس نجد أن الكثير من الفلاسفة والمفكرين دافعوا على هذه القوانين مؤكدين على ضرورتها ففي الفكر الإسلامي نجد أن أبو حامد الغزالي حيث يقول: " أن من لا يحيط بقوانين فلا ثقة في علمه " هذا الموقف ذاته نجد عند ابن خلدون حيث يقول: " المنطق قوانين يعرف بها صحيح الفكر وفاسده" وفي الاتجاه نفسه نجد الفيلسوف الألماني كانط يؤكد على أن: " مبادئ المنطق تمثل صور الفكر  فلا نستطيع أن نفكر إلا طبقا لها" وهذا تأكيد على قيمة القواعد المنطقية وضرورتها للإنسان وفكره عنده محاولة بلوغ المعرفة اليقينية
نقد:لكن انصار هذا الموقف قد بالغوا عندما اعتبروا أن المنطق الصوري  موصل إلى الحقيقة ذلك أنهم ركزوا على ايجابياته مهملين بذلك سلبياته التي تكمن  في انه منطق شكلي أي أن نتائجه لا تطابق الواقع كما أنه مجرد تحصيل حاصل، وأنه منطق لغوي أي أنه يعتمد على لغة الألفاظ لا الرموز
الموقف الثالث:يمكن التركيب بين الموقفين السابقين والقول بأنه حتى يتم الوصول إلى الحقيقة لابد من اندماج الفكر مع الواقع ومع نفسه وما ذلك أن العلم المعاصر يحتاج إلى الجمع بين ما هو تجريبي وما هو عقلاني أي بين المعرفة البعدية والمعرفة القبلية المتمثلة في الدمج بين الفيزياء والرياضيات اللتان تجمعان بين مادة الفكر وصورته للوصول إلى الحقيقة
الرأي الشخصي:وفي اعتقادي الشخصي أن المنطق الذي يستطيع أن يوصلنا إلى الحقيقة هو الجامع بين الجانب الصوري والمادي للفكر لأن الباحث لا يستطيع الاعتماد على انطباق الفكر مع الواقع دون انطباق الفكر مع نفسه وهذا ما أكد عليه انشتاين بقوله :"إن العقل يمنح نسق  بنيته أما معطيات التجربة، وعلاقتها المتبادلة فيجب أن تطابقها نتائج النظرية"
خاتمة:في الاخير نستنتج أن المنطق المادي  وبالرغم من قدرته على المساهمة في انطباق الفكر  مع  الواقع بالكشف عن الحقيقة غير أنه لا يكفي وحده بل يجب لكي نصل إلى الحقيقة أن يتطابق الفكر  مع نفسه ومع الواقع معا لهذا يقول غاستون باشلار" إن الواقع ليس هو دوما ما يمكننا أن نعتقده، ولكن ذلك الذي نفكر فيه".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل الذاكرة ذات طبيعة مادية أم نفسية؟

قارن بين العلم والفلسفة (خاصة بالعلميين واللغات)

هل معيار الحقيقة العمل النافع أم تأمل الإنسان لعالمه الداخلي؟