هل الوصول إلى الحقيقة يتم عن انطباق الفكر مع الواقع ؟ حلل وناقش خاص بالعلميين واللغات


هل الوصول إلى الحقيقة يتم عن انطباق الفكر مع الواقع ؟ حلل وناقش
مقدمة: يعتبر المنطق آلة ضرورية لضبط الفكر وتوجيهه نحو الحقيقة التي يسعى الباحث الوصول إليها من أجل بلوغ أسرار العالم الخارجي ولا يتم ذلك إلا من خلال المنطق الاستقرائي، غير أن هذه الفكرة أحدثت جدلا بين الفلاسفة والعلماء،فانقسموا إلى فريقين متناقضين،إذ يؤكد الفريق الأول على أن المنطق الاستقرائي هو الذي يوصلنا إلى الحقيقة، في حين يعارضه الفريق الثاني مؤكدا على أن المنطق الاستقرائي لا يكفي لكي يوصلنا إلى الحقيقة، وللفصل بين بينهما سنقوم بإثارة التساؤل التالي:هل المنطق الاستقرائي هو الضامن الوحيد للكشف عن الحقيقة أم لا؟
الموقف الأول:يؤكد أصحاب هذا الرأي أن تطابق الفكر مع الواقع يوصلنا إلى الحقيقة وهذا ما أكد عليه فرنسيس بيكون لما برهن عليه بمجموعة من الحجج أهمها:
أن المنطق المادي يهتم بدراسة الظواهر الطبيعية لمعرفة أسبابها وفق خطوات المنهج التجريبي الذي يعتمد الملاحظة,الفرضية,التجربة ومنه يمكن التحقق من أي نتيجة والتوصل إليها عن طريق التجريب كمرحلة تأكيدية تمكننا من البرهنة على صحة الوقائع المشاهدة والفروض الموضوعة والوصول إلى قانون عام وشامل وكل هذا لا يتم إلا من خلال الاستقراء وذلك بالانتقال من الجزء إلى الكل كقانون مبني على تطابق الفكر مع الواقع حيث يقول فرنسيس بيكون:"...هو استنتاج قضية كلية من أكثر من قضيتين أو هو استخلاص القواعد العامة من الأحكام الجزئية". وكمثال عن ذلك قولنا:  *الذهب معدن يتمدد بالحرارة
النحاس معدن يتمدد بالحرارة*الحديد معدن يتمدد بالحرارة*إذن جميع المعادن تتمدد بالحرارة ومنه فهو تحليل للواقع عن طريق الاستقراء أي أن المنطق المادي محسوس يهتم بدراسة الظواهر المرئية الموجودة في الواقع.
نقد:لكن هذا الرأي مبالغ فيه لأن انطباق الفكر مع الواقع لا يتم إلا من خلال انطباقه مع نفسه لكي لا يقع العقل في التناقض.
الموقف الثاني:يؤكد أصحاب هذا الرأي أن تطابق الفكر مع نفسه يوصلنا إلى الحقيقة وهذا ما أكد عليه أرسطو لما برهن عليه بمجموعة من الحجج أهمها:
أن المنطق الصوري هو مجموعة من القواعد تحمي الفكر من الوقوع في الخطأ وهي مطابقة الفكر مع نفسه من حيث دراسة الأفكار وفقا لمبادئ العقل (الهوية,عدم التناقض,الثالث المرفوع,السببية)ومنه يدرك العقل أي تناقض يقع فيه.فمثلا يؤكد الفارابي على أن النطق الداخلي المتمثل في صورية الفكر ضروري للنطق الخارجي المتمثل في اللغة التي تحتك مع العالم الخارجي كنتيجة حتمية ودليل على سلامة الفكر ، والتقيد بقواعد المنطق الصوري يجعل الأحكام صائبة واحترام هذه القواعد يجعل الفكر يتطابق مع ذاته وقد قال أرسطو:"...المنطق هو علم التفكير الصحيح الذي نميز به بين القول الصحيح والقول الفاسد".
نقد: لكن هذا الرأي مبالغ فيه لأن انطباق الفكر مع نفسه لا يكفي وحده للوصول إلى الحقيقة إذ أن الفكر المعاصر يدعو إلى لزومية حاجة الفكر مع نفسه ومع الواقع للوصول إلى الحقيقة.
الموقف الثالث:يؤكد أصحاب هذا الرأي أن الوصول إلى الحقيقة لابد من اندماج الفكر مع نفسه ومع الواقع معا ذلك أن العلم المعاصر يحتاج إلى الجمع بين ما هو تجريبي وبين ماهو عقلاني أي بين المعرفة القبلية والمعرفة البعدية المتمثلة في الدمج بين الرياضيات والفيزياء اللتان تجمعان معا بين صورية الفكر ومادته للوصول إلى الحقيقة حيث يقول غاستون باشلار:"...إن الواقع ليس هو دوما ما يمكننا أن نعتقده، ولكنه ذلك الذي نفكر فيه".
الرأي الشخصي:إني أرى بدوري أن المنطق الذي يستطيع أن يوصلنا إلى الحقيقة هو المنطق الجامع  بين الجانب الصوري والمادي للفكر لان الباحث لا يستطيع الاعتماد على انطباق الفكر مع الواقع دون انطباق الفكر مع نفسه وهذا ما أكد عليه إنشتاين بقوله:"...إن العقل يمنح النسق بنيته،أما معطيات التجربة وعلاقاتها المتبادلة فيجب أن تطابق نتائج النظرية".
خاتمة: نستنتج من خلال التحليل السابق أن المنطق الاستقرائي بالرغم من قدرته على المساهمة في انطباق الفكر مع الواقع بالكشف عن الحقيقة غير أنه لا يكفي وحده ،بل يجب لكي نصل إلى الحقيقة أن يتطابق الفكر مع نفسه و مع الواقع معا كسبيل يضبط لنا الفكر ذاتيا وموضوعيا خلال عملية بلوغ حقيقة هذا العالم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل الذاكرة ذات طبيعة مادية أم نفسية؟

قارن بين العلم والفلسفة (خاصة بالعلميين واللغات)

هل معيار الحقيقة العمل النافع أم تأمل الإنسان لعالمه الداخلي؟