الشعور بالأنا والشعور بالغير


التمييز بين الأنا ، الذات والغير :
   معنى الأنا :
-         لغة : ضمير المتكلم
-         اصطلاحا : يطلق على النفس المدركة ، قال ابن سينا " المراد بالنفس ما يشير إليه كل أحد بقوله أنا "
·        الإحساس بعملية التفكير وإدراك المحيط " الآخر " أي الذات المفكرة العارفة لنفسها في مقابل
الموضوعات التي تمتاز عنها .
·        الأنا عند الوجوديين " جوهر حقيقي ثابت يحمل الأعراض التي يتألف منها الشعور الواقعي "
·        أو هو :" الحقيقة الثابتة التي تعد أساسا للأحوال والتغيرات النفسية
·        المعنى النفسي والأخلاقي : تشير كلمة أنا في الفلسفة التجريبية إلى الشعور الفردي الواقعي ، فهي إذن تطلق على موجود تنسب إليه جميع الأحوال الشعورية كقول كوندياك عند الكلام على التمثال : الأنا هي شعوره – أي شعور التمثال – بما هو وبما كان "
·        المعنى المنطقي : تدل كلمة الأنا على المدرك من حيث أن وحدته وهويته شرطان ضروريان يتضمنان تركيب  مختلف عن الذي في الحدس  وارتباط التصورات بما في الذهن .
معنى  الذات :
 لغة : الذات النفس والشخص ، يقال ذات الشيء نفسه وعينه 
 اصطلاحا : 
   - الذات ما يقوم بنفسه ويقابله العرض ، بمعنى ما لا يقوم بنفسه ، والذات يطلق على باطن الشيء وحقيقته     
  - يطلق لفظ الذات على الماهية ، بمعنى ما به الشيء هو هو ويراد به حقيقة الشيء ويقابله الوجود
* الذات في المنطق  : تطلق على جميع المقومات التي تحدد مفهوم الشيء ومنه الذاتي وهو ما يخص الشيء ويميزه وبين الذاتي والعرضي بهذا المعنى تضاد .
معنى الغير :
لغة : المخالف والمعارض  
يقدم " لسان العرب " لابن منظور تحديدا لغويا للغير حيث الغير مشتق من التغير وتغايرت الأشياء أي اختلفت، تحديد يكرس نفس الفهم المتداول على اعتبار أن الآخر أو الغير هو المخالف والمباين. أما معجم روبير فالأخر يتحدد بكونه " من ليس نفس الشخص " . غير أن هذا التحديد السلبي للأخر باعتباره المغاير والمختلف عن الأنا يبقى تحديدا مجردا غير ملموس، لا يشير إلى فرد بعينه أو جماعة معينة حيث يتم حصر الأخر في الغريب ، المغاير ، البعيد ، الأجنبي وكل من لا يشاركني نفس الهوية، وتتحدد علاقة الذات بالأخر وفق معيار العلاقة القائمة بينهما ونظرة أحدهما للأخر ، قد تأخذ هذه العلاقة طابعا صراعيا ( العنف ، السخرية ، الميز العنصري ، التطرف الديني ، التعصب العرقي ، الصراع الاجتماعي )

المعنى  الفلسفي الآخر والغير يتحدد على نحو دقيق على اعتبار أن الغير هو الأنا الذي ليس أنا، كما حدد ذلك سارتر، وقد يكون تعريف الغير مسألة غير ممكنة وفق التحديد الارسطي حيث أن الشيء أما أن يكون مطابقا لذاته أو مخالفا لها .                                                        
                                                        الــــوعــي وتـشــكــل الــذات :

 يمتاز الإنسان بالوعي الذي يميزه عن غيره وبه يدرك أن موجود وأن العلم من حوله موجود كذلك ، وعي يصاحبه مادام حي ، ومن هنا لا يخرج الوعي أن يكون وعيا بالذات أو وعيا وبالموضوع ، وبالشعور يتحقق الكائن الواعي كوجود في العالم وهذا هو مضمون الكوجيتو الديكارتي " أنا أفكر إذن أنا موجود " فكيف وصل إليه ؟   
تصور ديكارت :
ممارسة الشك يعني اخذ مسافة بين الذات والأخر، وبين الذات وباقي الموضوعات، فالذات بوصفها ذات مفكرة لها الثقة العمياء في قدرتها العقلية والتأملية لفهم والسيطرة على كل ما يوجد خارجا عنها [
OBJET ] وتمثله بشكل شفاف ويقيني، حيث تصبح الذات العاقلة باعتبارها نورا فطريا وإدراكا هو الأساس التي تتم على أساسه معرفة الأشياء الخارجية فيما فيها الآخرأطروحة ديكارت R. Descartes
سبقت الإشارة أن فلسفة ديكارت شكلت الانعطافة في مسيرة الفلسفة الإنسانية حيث اعتبرها هيدجر الأرض الصلبة
le sol fermé الذي ستؤسس عليه الفلسفة الحديثة بنيانها ، الأرض الصلبة لن تكون إلا الذات المفكرة le sujet pensant وبالتالي سيكون الكوجيطو " أنا أفكر أنا موجود " je pense , je suis " الأساس المتين والحقيقة اليقينية الأولى لبناء الفلسفة الحديثة على أساس الذات الفردية من خلال الانطلاق من وعي الذات لذاتها كلحظة يقينية ودون وساطات من أحد، فالذات قادرة على معرفة ذاتها تجسيدا " لمبدأ الكوجيطو وعلى اعتباره أنه تعبير عن فعل الوعي الذاتي كنشاط حدسي.
فإثبات حقيقـة الذات المفكرة تمر عبر تجربة الشك
Doute ، الشك الـذي يقـود إلى اليقين، الشك حتى في المسلمات، حتى تصل الذات إلى الحقيقة اليقينية الأولى التي لا تقبل الشك وفي حقيقة الوجود المفكر (الأنا المفكر) واعتبارها الحقيقة التي تفرض نفسها على الفكر والعقل ببداهة ووضوح ، ومن ثم يكون وجود الأنا المفكر مستقل عن وجود الغير، لذا يصبح وجود الغير متوقفا على حكم العقل والاحتكام إلى نور العقل باعتباره الضمانة الوحيدة الموصلة لحقيقة دون الاعتماد على الحواس أو الملاحظة للإثبات وجود الغير، لأنها كثيرا ما تخطئ وتخدع يقينية العقل وخداع الحواس لذا يقرر ديكارت أن معرفة الغير أو الآخر هي معرفة عقلية ومتوقفة على شهادة
العقل شهادة الحواس .
ديكارت يدشن مرحلة وحدانية الذات
Le solipsisme ( أنا وحدي موجود) حيث كل ذات تعتبر ذاتها حقيقة مكتفية بذاتها ، وتملك يقين وجودها بشكل فردي عبر آلية التفكير ، فالإنسان يعي ذاته بذاته دون الحاجة إلى وساطات الغير حتى ولو كان هذا الغيرمشابها لي .
الذات في التصور الديكارتي منعزلة عزلة مطلقة لا تثبت غيرها ولا تحتاج لا حد أن يثبتها لكن إلى أي مدى ستبقى الذات تعيش في الاستقلال بطولي عن الآخرين ، أليست الذات في حاجة إلى الآخر لإثبات ذاتها، ألا يمكن الحديث عن الذات الجماعية بدل الذات
الفردية ، الحديث عن نحن بدل الحديث عن الأنا .
يؤسس ديكارت لتجربة جديدة ، تجربة الذات العارفة التي تمنح للأشياء وجودها أو إلغائه، فوجود الأشياء مرتبط بتجربة التفكير والوعي وممارسة الشك كعملية عقلية، الشك ممارسة ذاتية لا تمارس بالنيابة يعني أن ما يتم تأكيده هو وجود الذات المفكرة وفق مبدأ الكوجيطو أنا أفكر إذن أنا موجود الأخر فهو جازا وممكن مادام فعل التفكير لا يمارس بالنيابة نيابة عن الأخر لذا فوجوده يتحدد وفق منطق الاستدلال بالمماثلة مادام يشبهني فهو موجود يأكد ديكارت لو نظرنا إلى الناس من نافذة وهم يتحركون في الشارع فماذا نرى أكثر من المعاطف والقبعات التي تكسوا أشباحا أو ناسا باهتين يتحركون بواسطة دوالب ، فجوهر الذات هو الفكر الذي لا يتحقق إلا بممارسة تأملية خاصة، إذن فوجود الآخر جائر ذو صبغة افتراضية .
وقد أكد الفيلسوف الفرنسي مين ديبران الأمر بقوله : " قبل أي شعور بالشيء فلا بد من أن الذات وُجود " ويقول أيضا " إن الشعور يستمد إلى التمييز بين الذات الشاعرة والموضوع المشعور به "
ويرى هوسرل زعيم الفلسفة الظواهرية " أن الشعور هو دائما شعور بشيء " وهذا يقتضي أن تكون الذات الشاعرة واعية لذاتها حتى يمكنها أن تعي الأشياء والموضوعات .
  * وعليه يمكن القول أنه كلما كان الوعي بالذات أكثر كلما كان كانت الذات أو الأنا أكثر تحقيقا لنفسها وتأكيدا لوجودها وكيانها ، وأكثر معرفة بفعاليتها وانفعالاتها ، ونقاط قوتها وضعفها .    

  نقد
  لقد وجهة انتقادات  عدة لهذا التصور عن الوعي يمكن حصرها في النقاط التالية :
 01-  الشعور حسب التصور الديكارتي قلعة داخلية حيث يعيش الإنسان منعزلا ، أما باقي العالم فهو بالنسبة إلى هذا الأنا كخشبة المسرح وهذه القلعة ليست حقيقية وإنما هي كما يقول غوسدروف ": مجرد خيال وإنتاج لأوهام لا تعرف بنية الفكر الحي ذاتها وليس للشعور مضمون داخلي فهو في حد ذاته فراغ ".
02 – إن وعي الذات لذاتها أو ما يسمى بالاستبطان عند علماء النفس أمر مستحيل لأن الذات واحدة ، ولا يمكنها أن تشاهدها ذاتها بذاتها أو ملاحظ وموضوع الملاحظة ، لأن الشعور هو دائما شعور بشيء، ولأن المعرفة تفترض وجود العارف وموضوع المعرفة ونخلص  من ذلك أن شعور الذات بذاتها أمر لا أمل في تحقيقه
03 – إن الشعور كمؤسس للأنا مصدر خداع ، فقد يكون مجرد انطباع ، ثم هل الشعور قادر على معرفة اللاشعور الذي يخفيه ويختفي وراءه حتى تتحقق معرفة الذات لذاتها ؟
04 – هنا نجد أفلاطون يتساءل قديما حول هذه الحقيقة " الشعور أساس الوجود " في أسطورة الكهف معتبرا ما يقدمه لنا وعينا ما هو إلاّ ظلال وخلفها تختفي أو تختبئ حقيقتنا كموجودات .
05 – اعترض سبينوزا على تحديد ديكارت ووصف الشعور بالوهم والمغالطة ، فاعتقاد الناس بحرية تصرفاتهم ظن خاطئ لعدم وعيهم بسلطان رغباتهم وشهواتهم ، وأنهم لا يعلمون شيئا عن الأسباب المتحكمة في شعورهم الموجه له : إن السكير كما قال يتوهم أن يتحدث بأمر حر صادر عن ذهنه عن تلك الأمور التي كان يؤدي في صحوه ألا يقول عنها شيء ، ولكنه في الواقع تحت تأثير الخمر .
06 – لقد فرويد أن أفكارنا وردودنا المختلفة ما هي إلاّ نتاج تربية أكرهنا عليها المجتمع والعائلة ، كما قد يكون هذا الوعي بفعل تأثير لا شعوري ، فالوعي وحده ليس هو المحدد لذات الإنسان وأن هذه الذات محصلة ظواهر لا يستطيع الوعي تفسيرها ، إننا لسنا كما نشعر بل وما نشعر به ما هو إلاّ قناع تختبئ وراءه حقيقة ذاتنا  .
    لكن هذا التفسير لم يحدد لنا حقيقة الذات العارفة ، كما أن الفرد يدرك ذاته في بعض الأحيان من خلال الغير الذي يواجهنا ويدفعنا إلى التفكير في أنفسنا .
    التباين الموجود بين هذه المواقف حول مسألة الشعور بالذات ، ويؤكد صعبة التمكن من معرفة ذواتنا على حقيقتها إلاّ أن الوعي يبقى الدعامة والشرط الأساسي في كل معرفة مادام في مواجهة مع غيري أي خارجا عني ، وهنا طرحت مشكلة أخرى هي هل باستطاعة الأنا العارف لذاته أن يتعرف على الأنا الآخر ؟ ّ 
ثالثا : معرفة الذات بين المغايرة والتناقض :
أ – معرفة الذات تقوم على التقابل والمغايرة :
كل معرفة تقوم على فعل الفكر المتجه نحوى موضوع ما مهما كانت طبيعته ، وهذا الفعل القائم على التحليل والفحص والتركيب ،والاستدلال يتضمن تقابل في جميع الأحوال مع الذات ، فالموضوع منفصل عنها ومعناه متباين معها ،وهذا يعمق من تمايز الذات مع غيرها ، إن الذات تتعرف على نفسها مباشرة بوعيه المتمتع بالإرادة وبالقصد والحرية والفاعلية ، كما أنها تتجلى لنفسها على أنه فردية مميزة عندما تقابل الآخر وتتبلور في وجود خاص ، ومثل هذه المعرفة تقتضي وجود الآخر والوعي به والاعتراف به ، هذا الطرح قال به الفلاسفة العقليون ، ويتمثل عندهم أساسا في أن الإنسان يستطيع بعقله عزل الموضوعات والأشياء والأشخاص أو غيرها ، وأن يتناولها بالفحص والنظر والتدقيق لينتهي بعد هذا الفعل إلى تمييزها عن بعضها من خلال كيفياتها ، ويحقق لها بذلك هويتها المميزة لها . مثل تميز أنصار الفريق الرياضي عن غيره من الأنصار بطريقة التشجيع .
  هذا التصور العقلي قائم على فكرة المقابلة أو المقارنة التي يقوم بها العقل من خلال تحديد أوجه الشبه والاختلاف فاشعور لا يمكن أن يقع له الإدراك وهو مستقل تماما عن الأشياء أو الموضوعات المشعور بها ، وعلى هذا النحو تحصل لهذه الكيفيات مدلولاتها ، ويحصل الإحساس بالتماثل بيننا وبين الآخر .
وعلى هذا فوجود الآخر والشعور به متوقفا على ما تقوم به االذات الفردية " الأنا " من أفعال باتجاهه ، وهذه الذات تتعرف على العالم وعلى الغير بالعقل .
ب – معرفة الذات تتوقف على تأسيس التناقض :
    يعتبر الفيلسوف الألماني فريدريك هيجل  أن الغير أو الآخر ضروريا لوجود الوعي بالذات ، والأنا لا يكون أنا إلاّ بالعلاقة مع الغير الذي هو في الوقت نفسه مكون له وفاعل ، وليس مجرد وجود جائز ، فعن طريق المقابل لي أتعرف على أناي ، وهذا الأنا الذي هو أناي ليس له من معنى إلاّ لأنه ليس الآخر ، وأن كل معرفة لذاتها تتطلب الاعتراف بها من طرف الآخر ، ويمكن بيان أطروحته على الصورة التالية :
إن إدراك الآخر يتحدد من خلال الاتصال به وهو اتصال تماثل العلاقة التي تربط الأنا بالآخر ، وهذه العلاقة هي علاقة تناقض يحصل عنها وعي الذات ووعي ذات الآخر ، وهذا ما يتجلى في جدلية هيجل  القائمة بين العبد والسيد .فالسيد والعبد شخصان أحدهما ارتفع عن الأشياء المادية ، وألحق وجوده بالآخر الذي هو العبد ، ولم يخاطر العبد بنفسه ولم يضح بها ، استغل السيد هذا الوضع فكان أن نشأ عنه صراع ، والسيد ينتصر فيصبح بذلك المالك والحر ، وفي هذه الحالة تنشا بين الاثنين علاقة ، فالسيد لا يقتل خصمه بل يحتفظ به ككيان لسيادته وآدات لتحقيق مآربه ، أما العبد فمن خلال العمل الذي يسخره إليه سيده يدرك في قرارات نفسه أن يؤثر في الموضوعات والأشياء ، ينفذ إلى أعماقه ويشكلها كما يريد ، هذا الصراع يؤدي إلى أن يدرك كلا منهما أناه وفي الوقت نفسه يدرك الآخر .
    ومن هذه الجدلية يظهر الأنا والآخر في صورة موضوعين مستقلين يقفان وجها لوجه ن وأن وعييهما يتحدان من خلال أن كلا منهما يثبت ذاته لنفسه كما يثبته للآخر بواسطة الصراع من اجل الحياة أو الموت ، وبالتالي يصبح الشعور بالأنا يقوم مقابل الشعور بالغير .
لكن كيف للغير أن يعرف ذاته إذا كانت معرفة الأنا تمر من خلاله ؟
   تتم دون أن يتحرر الأنا عن الآخر أو يعزل نفسه عنه ، لهذا عليه أن يعيه من أجل التغلب عليه ، وأن يضعه في ذاته دون أن يفقد نفسه فيه ، وهذا التحرر من الغير دليل على ضرورة وجوده ومقابلته حتى يتم له وعيه أولا بذاته والذي ينتج عنه ثانيا إدراك الآخر .
نقد للتصورين :
  إن الصراع ليس مفهوما أخلاقيا في العلاقات بين الناس وخاصة إذا تحول إلى عنف ، فقد نختلف في مواقفنا ولا نتفق على رأي من الآراء وقد تتنوع مللنا ومعتقداتنا ،  لكن هذا ليس مبرر للتناحر على البقاء والغلبة ، كما أن ربط معرفة الذات الآخر لا يعني فقدانه لحريته ، فالغير موضوع لا يتضمن سلب معانيه ، بل يجب التواصل معه يقول لحبابي ": إن معرفة الذات تكمن في أن يرضى الشخص بذاته كما هو ضمن هذه العلاقة النا كجزء من النحن في العالم ." .
  رابعا : التواصل مع الغير يؤسس المعرفة بالذات .
 أ- الحذر من طمس الغير :
         يمكن تحقيق التواصل مع الغير من دون تنافر عن طريق الوعي بالمماثلة والإحساس المشترك ، وعن طريق اللغة والنظر لأن هذا الشعور لا ينطوي على نفسه ، وهنا يعتبر برغسون أن بذل جهد على مستوى الحدس يمكننا من التموقع داخل شخصية الآخر ، وأن الإتصال الحقيقي بالغير حسب تصور ميرلوبونتي : أن العلاقة المعرفية المتأزمة والصراعية بين الذات والآخر ليست هي العلاقة الوحيدة والممكنة، وبسبب هذه الأزمة هو نظرتها للآخر من زاوية العقل والفكر والحساب القائم على التجريد والتقسيم .
لذا يؤكد بونتي أن معرفة الغير تقتضي مني التعاطف معه ، لان الآخر وعي لا أستطيع معرفته إلا إذا اعتبرته ذات إنسانية يحس ويفكر ويعي مما يعني قناة معرفته تكون عبر التعاطف معه ومشاركته في أحاسيسه والتفاعل معه في دائرة ما هو إنساني ، فلكي اعرف وأتعرف على الآخر علي أولا معرفة ذاتي لكي اعي الآخرين . فمعرفة الآخرين عن طريق العقل معناه إفقار وجودهم وتشيئهم يحدد بونتي نظرة جديدة لمعرفة الآخر، أو بالأحرى التعرف عليه ليس من قناة المعرفة وإنما عن طريق التواصل والتفاعل والمشاركة الحية من خلال الانفتاح على الغير،لان العالم ليس هو ما أفكر فيه ، لكن هو ما أعيشه .
ب -  التواصل عند سارتر
  01 – لقد اعتبر سارتر الآخر مقوما أساسيا مكوننا للأنا والوعي به ، والنقطة الأساسية عنده تتمثل في الصلة بين الذات والغير " وجود الآخر شرط لوجودي وشرط لمعرفة نفسي ، وعلى ذلك يصبح اكتشافي لدواخلي اكتشافا للآخر" والغير هو إنسان وليس شيئا ، وهو حقيقة مطلقة موجودة ، تنكشف وتتجلى كما تظهر ، وهذا الإنسان ليس شيئا بل هو كائن تنتظم حوله الأشياء في العالم " الإنسان الآخر " ينظر إليّ وباستمرار ، وفي ذلك إمكانية تحولي بالنسبة إليه إلى موضوع ، وهو موضوع أصبح موجودا للغير .
02 – أنا أفكر : الوعي والمواجهة .
أخذ سارتر بالفكرة التي انطلق منها ديكارت "أنا أفكر فإذن أنا موجود " وبعد أن حددها متجاوزا الفردية الذاتية الخالصة أضحت عنده حقيقة مطلقة يندفع إليها الوجدان ليعي نفسه ويعي بالتالي وجوده ،بل ويعي الآخرين فالأنا أفكر لا تجعلني أعي نفسي ... ولكنها تجعلني أعي نفسي مواجها للآخرين ، وتجعل الأخر حقيقة أكيدة لي ، ووعي له لا يقل قوة عن وعيي لنفسي " ، وما دام هناك كونية للإنسان نابعة من اختياره الحر لنفسه ، ومن فهمه لمشروعه وليست معطاة ، وما دام انها تتكون وتتطور فهي تمكنني من فهم كل رجل من أية حقبة تاريخية كانت ، فكل إنسان يحي مشروعه ويعيشه ، وأنه يستطيع أن يذهب بخياله إلى حدود مشروع الآخر ويحياه ، وبالتالي إدراك الذات لا يتم إلاّ من خلال الغير ، حالة الخجل مثلا حين يكون الإنسان وحيدا في حديقة ويتصرف بشكل طبيعي باعتباره مركز العالم ، لكن بمجرد لا يكتشف فردا أخر يراقبه يحس بالخجل ، إذن فالذات اكتشفت خجلها بسبب وجود الآخر ، وليس لعامل نفسي وذاتي ، فالذات في حاجة إلى الأخر لتعرف نفسها "
فعن طريق الرؤية ينكشف الغير لأن وراء نظرته ذات تحكم وتفكر وحين تحكم الذات عن الأخر تحوله إلى موضوع ، حيث كل واحد يحول الآخر ويشيئه بواسطة الرؤية ، لذا فالوعي بالذات عند سارتر يتحدد وفق معيار التمايز عن الآخر، لان خصوصية كل وعي تتحدد بقدرته على اخذ المسافة "
se distancier " والتراجع أمامه " prendre recul " وعدم الالتصاق به " décoller se " فظهور الآخر أمام الذات يعني تحويله إلى موضوع ، هذه هي اللحظة الأولى للنفي المتبادل ، الذات تنفي الغير ، والغير ينفي الذات ، النفي يعني تحويل آخر إلى موضوع ، حيث كل طرف يريد أن يشغل مركز العالم ومحطة الاهتمام ولأن الرؤية " le regard " تدفع الذات إلى الخجل والى الهروب من العالم والانحصار داخل حدود الذات .
03 – التواصل عند غابريل مارسيل :
     انفراد الأنا بالوجود حسب هذا الفيلسوف ما هي إلاّ نتيجة للتمييز بين الفرد والموضوع ، فهي ترسم دائرة الانفراد لأنها تعزل الغير في الخارج داخل دائرة أشكلها أنا بنفسي ، فعندما أعامل الغير مثل الأنت وليس مثل الهو فإن ذلك يزيدني انفرادا بالنسبة إلى هذا الغير ، وعندما أعامله كـ هو فإنني أختزل الغير في شيء يتحرك هكذا ، وعلى العكس من ذلك عندما أعامله كـ أنت أراه وأمسكه كحرية ، لأنه حرية وليس طبيعة أو شيئا ، لهذا فمعرفتي بالغير مرتبطة بمقدار تفتحي عليه .
** الطرح المجرد والممارسة العملية :
   إن الاشتغال بطرح العلاقات المجردة بين الأنا والغير طرحا فلسفيا خالصا برغم قيمتها الفكرية ،إلاّ أنها من الناحية الواقعية والعملية قد تكون في أكثر الأحيان غير مجدية ، لذلك ينبغي تجاوز الطرح المجرد لمشكلة الأنا والغير والشروع  في إيجاد القواعد والأطر العملية والممارستية للتواصل الحقيقي بين الأنا والغير .
·        الانطلاق من قاعدة كلية موحدة مفادها " الإقرار بالغير شبيها لنا "
·        تأكيد مبدأ التعادل والتساوي في الاعتبار بين الأنا والغير
·   تفعيل ذلك من خلال جملية من القيم الأخلاقية والإنسانية مثل الحب والصداقة والإحسان والتسامح ، والتواصل والحوار ، ونشر ثقافة التعايش مع الغير ، وخلق أسباب التنافس والنزيه ، الوقوف ضد أوجه التنافر والصراع والعنف .




حل المشكلة : الأنا والغير وجب أن تحكمها ثقافة التعايش ، واحترام مبدأ التعادل في نظرة كل أنا للآخر .

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل معيار الحقيقة العمل النافع أم تأمل الإنسان لعالمه الداخلي؟

السؤال:برر الأطروحة القائلة أن:"الرياضيات مطلقة"

هل الذاكرة ذات طبيعة مادية أم نفسية؟