هل يمكن أن يأتي يوم وتتلاشى فيه الأسرة ؟ 3 أف


هل يمكن أن يأتي يوم وتتلاشى فيه الأسرة ؟
تعترف المجتمعات على اختلاف درجاتها في تطور والتقدم بوجود مؤسسات اجتماعية تتباين بنياتها ووظائفها وأهدافها.والأسرة باعتبارها مؤسسة اجتماعية،أي بنية ثابتة نسبيا تنتظم فيها علامات اجتماعية لتحقيق حاجيات أساسية هي:إطار يرتبط فيه سلوك الفرد بسلوك الجماعة وتنعكس عليه آثار الفاعلية الإنسانية ودراسة الأسرة من أهم الدراسات  الاجتماعية التي حظيت بنصيب وافر من عناية علماء الاجتماع وقد أظهرت هذه الدراسة أن مفهوم الأسرة الحديثة يشير إلى نوع راق من النظام الأسري يختلف اختلافا كبيرا من الأنظمة الأسرية التي عرفت قديما والتي ما يزال بعضها قائما في أنحاء العالم .فالأسرة الحديثة عرفت بأنها الوحدة الاجتماعية المبنية على الزواج،أو هي ‹‹وحدة بنائية تتكون من رجل وامرأة يرتبطان بطريقة منظمة اجتماعية مع أطفالهما›› أو هي الجماعة المكونة من الزوجين وأولادهما الذين يقيمون في مسكن واحد ،إلا أن تطور الحياة الاجتماعية وتعقدها حمل المجتمع الحديث إلى وضع هيئات ومؤسسات تخفف عن الأسرة أعباءها وظائفها القديمة لهذا دار جدال بين الفلاسفة فالبعض منهم يعتقد أنه يمكن أن يأتي يوم تتلاشى فيه الأسرة لأنه لا دور لها أما البعض الآخر فيعتقد أنه لا يمكن أن يأتي يوم تتلاشى فيه الأسرة لأن أدوار في المجتمع  ولتهذيب هذا التعارض الموجود بين الموقفين نتساءل هل الأسرة لها دور في المجتمع أو  ليس لها دور ؟وبالتالي هل الأسرة مؤسسة اجتماعية ضرورية ؟
يرى أنصار الموقف الأول وخاصة هاربرت سبنسر، وإيميل دوركايم ،وكارل ماركس، ،فريدريك انجلز،انه ليس للأسرة دور وبالتالي  فهي مؤسسة غير ضرورية  ويمكن الاستغناء عنها لأن وظائف الأسرة في القديم كانت واسعة وشاملة لمعظم شؤون الحياة،ولكن المجتمع أخذ ينتقص منها الوظائف شيئا فشيئا.كما يرى سبنسر  أن الأسرة بحكم التطور من الحياة الطبيعية إلى المدنية ،سيحكم عليها بالزوال فهم يرون أن الأسرة انتقلت عبر العصور من النظام العشائري إلى الأسرة الأموسية ثم إلى الأسرة الأبوسية والحياة الزوجية(الأسرة النواة ) فكذلك تتطور من الوجود إلى الزوال لذلك يقول عبد الوهاب الميسري :"وقد أصبحت الأسرة ترتيبا مؤقتا فحين يصل الأطفال إلى سن السادسة عشرة ، فإنهم يتركون المنزل ،وحينما يصل الآباء إلى سن التقاعد فإنهم ينتقلون إلى بيوت المسنين "
كما أن إيميل دوركايم  أيضا أكد على فكرة زوال الأسرة على اعتبار تقلص عدد أفرادها حيث أصبحت تتكون من زوجين وأبنائهما لذلك قال:"...أن الأسرة تطورت من العشير الطوطمي إلى الحياة الزوجية"
بالإضافة إلى هذا نجد أنصار النزعة الاشتراكية وخاصة كارل ماركس وانجلز يرون أن الأسرة مؤسسة سلبية  لهذا يجب إلغاءها لأنها تشجع الملكية الخاصة (الفردية) وتزرع حب الذات والأنانية بين الأفراد وتؤدي إلى التفاوت الطبقي لأنها تحافظ على الإرث (الملكية ) وانتقاله من الآباء إلى الأبناء وبذلك من الأفضل أن تترك مؤسسات المجتمع هي التي تسيطر على وسائل الانتاج  وتقوم بتربية الأطفال لهذا يقول انجلز :"فالعناية والتربية الموجهتان إلى الأطفال مسألة عمومية فالمجتمع يقدم عناية متساوية لجميع الأطفال " كما يقول أيضا :"...يوم تنتقل وسائل الانتاج إلى الملكية المشتركة،فالأسرة لا تعود الوحدة الاقتصادية للمجتمع".
ليس هذا وحسب بل نجد الفيلسوف الفرنسي أندري جيد يرى أن  الحياة في الأسرة تقتل في الفرد الروح الابداعبة،فتقيد حريته وتجعل منه كائنا لا يتجاوز حدود الأسرة لذلك فهو  يحرر الفرد ويجعله متمتعا بشخصيته لذلك يقول :"الأسرة سجن اجتماعي بمعنى الكلمة"
بالإضافة إلى هذا فإن أندري جيد يسخر من وظائف الأسرة  ويعتقد أنها غير ضرورية إذ بإمكان الفرد إشباعها دونما حاجة للأسرة التي لم تعد قائمة على أسس موضوعية وإنما على أسس عاطفية وهذا ما يجعلها متغيرة بتغير انفعالات أعضائها لذلك يقول :"أيتها الأسرة إني أكرهك"
تعبا لهذا فإنه بإمكان الفرد أن يستغني عن الأسرة مادام بإمكانه تحقيق حاجياته بدونها بسبب تلاشي وظائفها إذ يمكن تحقيق الوظيفة البيولوجية  من خلال المساكنة أو من خلال ما يسمى بالأمهات العازبات (حيث يتم إنجاب الأطفال من خلال إشتراء الحيوانات المنوية من البنوك المخصصة لها ومن ثمة الخضوع للتلقيح الاصطناعي )،وكذلك الوظيفة التربوية ذلك أن الدولة هي التي تقوم بهذه الوظيفة عن طريق مؤسساتها كالمدارس ودور الحضانة والروضة لتربيتهم وتنشئتهم ،كما فقدت الأسرة أيضا الوظيفة الاقتصادية وهذا بتطور المجتمع وظهور وحدات اقتصادية مصنعة كالمخابر والمغاسل والمطاعم بحيث أصبحت استهلاكية أكثر منها صناعية  كما أنها  فقدت حتى الوظيفة القضائية لأن المحاكم اليوم تقوم بحل النزعات العائلية
النقد:غير أن هذه النزعة التي يمثلها أصحاب النزعة الفردية تهمل وتنكر جميع الواجبات،والأعمال التي تقوم بها الأسرة،فالأسرة هي الخلية الأولى لتكوين المجتمع.والنواة والروح السارية فيه والقلب النابض.كما ان الأسرة الحالية(التي تحرر فيها أبناؤها)لا تؤدي مهمتها الإنسانية ولا الاجتماعية ،إنها ناقصة ماديا واجتماعيا ويقول أوغست كونت :"ان المجتمع يتألف من الأسر،لا من الأفراد" فالفرد لا يتمتع بالحياة في حد ذاته ،كما أن الفرد الذي تحرر من أسرته يخرج كالحيوان (لا حول له ولا قوة) فيغرق في هوة من التمرد والتشرد،فلا يتعلم السلوك والتربية ولا اللغة.كما أن الذين تصوروا زوال الأسرة،لم يأخذوا حسابا للأخطار التي تصيب الأطفال في نموهم كما يدعوه سبنسر بالتخلف في النمو العاطفي وهذا وقد انتهت الأمم التي تمثل المجتمع الأسري (بدون أسرة) إلى الاعتراف بالدور الذي تلعبه الأسرة في الأخلاق والتربية والغذاء الروحي.
     يرى أنصار الموقف الثاني وخاصة كل من روني سبيتز و مارغريت ميد أن للأسرة دور وبالتالي  فهي مؤسسة ضرورية ولا يمكن  الاستغناء عنها لأن الأسرة وحدة اجتماعية لا يمكن تصور زوالها،فالمجتمع مهما ناب عن الأسرة في عدد من أعمالها،فإنه لا يستطيع القيام مقامها في الوظائف العائلية المحضة(بيولوجية واجتماعية وسيكولوجية)وقد اعتمدوا على  حجج لإثبات موقفهم هذا تتمثل في أن  الأسرة لها وظيفة بيولوجية ذلك أنها  تشبه المثلث فهي تتألف من ثلاث أضلاع الزوج والزوجة والأبناء،فالزوج والزوجة وحدهما لا يؤلفان أسرة . وإذا كان الأمر يتعلق بهما فقط.فهنا يحق لنا أن نقول:أن الأسرة مآلها الزوال،إذن فيجب أن يترك الزوجان من يخلفهما ليبقى بذلك اسم الأسرة أزليا لقول الله تعالى :"ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " وقوله أـيضا :"سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون " لهذا يجب قيام المعاشرة الجنسية على أسس سليمة من أجل التوافق والانسجام بين الزوجين ، كما أن الزواج لا يبنى على الناحية المادية وإنما يعتمد على الناحية العاطفية التي لا تكون إلا بالمحبة الخالصة والمعاشرة الطيبة وهذه الأمور هي التي تضمن الإستقرار وسلامة النسل جسميا وعقليا وبالتالي فالأسرة تقوم بضبط السلوك الجنسي والحد من الأطفال غير الشرعيين لذلك تقدم خدمة للمجتمع
كما لها وظيفة سيكولوجية (نفسية )والتي  لا نجدها في أية مؤسسة أخرى ، وتتجلى في صور الحنان والعطف والمحبة والتآلف فهي من الوظائف الأساسية للأسرة وتعد بمثابة الحبل القوي الذي يشد أفراد الأسرة بعضهم إلى بعض ويقول هيجل :"إن أفراد الأسرة يعيشون في وحدة مشاعر وحب وثقة وإيمان بعضهم ببعض وفي علاقة الحي الطبيعي يكون لدى الفرد الواحد وعي بنفسه بقدر وعيه بالآخر "وذلك من خلال علاقة مبكرة بين الطفل والأم من جهة وباقي أفراد الأسرة من جهة أخرى وهذا يدل على أن للأبوين دور كبير في تنمية شخصية الطفل ، والطفل المحروم من هذا (الفيتامين السيكولوجي ) لا ينمو نموا سليما لذلك يقول أوليفييه ريبول :"إن المولود البشري هو أحوج الكائنات إلى الرعاية والتربية "لأن النمو السوي ليس تابع للظروف المادية المناسبة فقط بل هو تابع أيضا للظروف النفسية التي من شأنها تنشيط الجانبين الجسمي والعقلي معا
إضافة إلى هذا نجد الوظيفة التربوية حيث أن  أهم وظائف الأسرة إنجاب الأطفال وتربيتهم،تربية اجتماعية،فهم في حاجة إلى تربية وتعاليم أخلاقية ولغة ،لكي يتسنى لهما إنشاء أطفال صالحين للمجتمع وبالعكس فإن إهمال الأسرة لأبنائها ومنحهم الحرية المطلقة يؤثر عليهم فيشعرهم بالحرمان والتشرد ,وقد اهتم العديد من الأطباء بالبحث في آثار ابتعاد الطفل عن أسرته وأبرز هذه الأبحاث :أبحاث روني سبيتز  فقد أثبت أن الطفل يعاني آلاما جسدية ونفسية بسبب إبعاده عن أمه .أما عن الأطفال الذين يبقون تحت رعاية المؤسسات مثل روضات الأطفال ودور الحضانة فنموهم يعادل نمو المعتوهين وفي مقابل ذلك يرى روني أن الأطفال الذين يترعرعون في وسط أسرهم يكون نموهم  سويا وقد أكدت مارغريت ميد هذا في قولها :"إن أسوء بيت يعادل أو أحسن من روضة أطفال "
ليس هذا وحسب بل نجد أن للأسرة وظيفة إقتصادية وتتمثل في توفير الحاجيات الأساسية لأعضائها ، وبالتالي القيام بالمهام الإقتصادية ،لأن الأسرة بحاجة إلى سكن وغداء وملا بس بالدرجة الأولى ثم  هي بعد ذلك بحاجة إلى جميع وسائل الحياة التي تفرض على جميع أفراد الأسرة التعاون على توفيرها وقد نجد المرأة تعمل إلى جانب الرجل في مسرح الحياة الإقتصادية وهذا بتطور العلم والصناعة وازدياد مطالب الحياة وتكاليفها حيث كانت الأسرة في الماضي وحدة اقتصادية تقوم باستهلاك ما تنتجه ،لكن الإنتاج الصناعي حولها  حاليا إلى مؤسسة اجتماعية استهلاكية .
نقد :غير أننا إذا قلنا أن وجود الأسرة في المجتمع بمثابة الدعامة أو المحرك الأساسي للمجتمع ،فإنه تترتب عنها عواقب خطرة لأن الأسرة إذا دب فيها التفكك أنتجت لا محالة أفرادا طالحين والتجربة تكشف أن انحراف الأطفال والشباب يرتد في أغلب الأحيان إلى سوء تفاهم داخل البيت أو انحلال في الأسرة بسبب المشاكل التي تحدث داخل المنزل (الموت أو الطلاق ) فكيف يمكن أن تستقيم أمور طفل نشأ في بيت يتخاصم فيه الأبوان أو بيت متعدد الزوجات ولا عدالة فيه .
   يمكن التركيب بين الموقفين السابقين  والقول أن الأسرة مؤسسة ضرورية ولازمة للمحافظة على توازن المجتمع ولا تستطيع  مؤسسات الدولة أن تحل محلها ، كما لا تستطيع الأسرة أن تحل محل مؤسسات الدولة برغم تكامل وظائفهما المشتركة كالوظيفة الحيوية  واللإقتصادية والتربوية
   وفي اعتقادي الشخصي أن الفكر الإسلامي يؤكد أن المجتمع السليم هو الذي يحرص على إبقاء الأسرة وصيانتها فالأسرة المتماسكة هي الوحدة الاجتماعية التي تعمل على الاحتفاظ بنجاعتها الأخلاقية والاجتماعية .وإذا  كانت الأسرة قد فقدت الكثير من وظائفها ،فذلك من أجل التفرغ لوظيفتها الأساسية التي تتمثل في تربية وتنشئة الأطفال ،هاته التي لاتستطيع أي مؤسسة اجتماعية أخرى أن تقوم بها ولا يمكن لأي شيء القضاء عليها كما يقول ماك ايفر :"بقدر ماتفتقد الأسرة وظائفها بقدر ماتجد وتعكف على وظيفتها الخاصة والحقيقية "
   نستنتج في الأخير أن الأسرة ضرورية للوجود الإنساني لا يمكن الاستغناء عنها فلها أهمية بالغة وعليها يتوقف إلى حد بعيد قوة المجتمع ومناعته وأن المجتمع حين يتقاسم معها وظائفها  فهو كذلك يساهم في تربية الأطفال والمحافظة على الأسرة وذلك بحل مشاكلها والاهتمام بها ماديا ومعنويا لكي تساهم بدورها في بناء المجتمع لهذا قال أحدهم :"لقد نال المجتمع البشري حضارته بفضل الأسرة وإن مستقبله يتوقف على هذه على هذه المؤسسة أكثر من أي مؤسسة أخرى ".

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل الذاكرة ذات طبيعة مادية أم نفسية؟

قارن بين العلم والفلسفة (خاصة بالعلميين واللغات)

هل معيار الحقيقة العمل النافع أم تأمل الإنسان لعالمه الداخلي؟