السؤال:ميز بين المشكلة العلمية والإشكالية الفلسفية


السؤال:ميز بين المشكلة العلمية والإشكالية الفلسفية


مقدمة: يحتاج الإنسان في تواصله مع العالم الخارجي إلى آليات تمكنه من ترجمة عالمه الداخلي المتمثل في الفكر،حيث أن الفكر هو الحياة الخاصة التي من خلالها يتطلع الإنسان إلى تأمل واقعه المعاش ويحلله،حيث يتميز التفكير الإنساني بشكل عام بتعدد مبادئه و تنوع مناهجه،منها التفكير العلمي الذي هو كم متميز من الدراسة النظرية للواقع محاولا معرفة الشروط و القوانين المتحكمة فيه حيث يحاول معالجة مشاكله من خلال الكشف عن العلاقات السببية بين الظواهر والتي نسميها مشكلة علمية ،غير أنه يوجد نمط آخر من التفكير هو التفكير الفلسفي الذي له دور في البحث عن العلل الأولى للوجود الذي يحياه الإنسان فيثير إشكالية فلسفية،حيث شكل كل نط فكري خصوصية الإنسان و ميز وجوده الفاعل في الكون باعتباره كائنا مفكرا و متأملا في الوجود مما أدى بالبعض إلى النظر إلى ضرورة التمييز بينهما، وبالتالي يدفعنا مفهوم العلم والفلسفة إلى البحث عن العلاقة الموجودة بينهما وطرح التساؤل التالي:ما هي أوجه الاختلاف وأوجه و أوجه التشابه وأوجه التداخل الموجودة بين التفكير العلمي و التفكير الفلسفي ؟ وبعبارة أخرى : ما هي العلاقة الموجودة بين المشكلة العلمية والإشكالية الفلسفية؟

     أوجه الاختلاف:

من أوجه الاختلاف الموجودة بين المشكلة العلمية والإشكالية الفلسفية، اختلافهما من حيث الموضوع والمنهج والغاية:

إن المشكلة العلمية مجموعة من التساؤلات والفرضيات الجزئية التي يمكن حلها بفضل خاصية المنهج العلمي القائم على خطوات منهجية تنتهي بالقانون العلمي،حيث نجد الحقيقة العلمية واحدة ولأنها محل اجماع بين العلماء الذين يؤسسون لكل مشكلة علمية الحلول داخل المخبر.حيث ضبط باتريك هيلي العلم عموما بقوله:«...هو نسق من القضايا المنطقية تعبر عن فرضيات صحيحة»

أما الاشكالية الفلسفية فهي مجموعة من التساؤلات والمشكلات التي تنضوي تحت قصية كلية هي الاشكالية الفلسفية والتي تحتمل التنوع والتعدد في مصادرها وطرق فهم مواضيعها بسبب تعاقب مذاهبها،إذ لكل عصر فلسفته الخاصة ومفهومة للإشكاليات الفلسفية،فنجد الفلسفة اليونانية والفلسفة الاسلامية والفلسفة الحديثة والفلسفة المعاصرة. والإشكالية الفلسفية كما عبر عنها الباحث العراقي حيدر ناظم محمد بأنها:«عبارة عن   سلسلة مترابطة ومتداخلة من التساؤلات المنظمة،التي تهدف إلى إبراز المشكل الفلسفي واكتشافه وتقديم فروض للحلول حوله»،والفلسفة هي نمط من التفكير والنشاط العقلي الذي يهدف إلى سبر أغوار الوجود بعموميته الإلهي والإنساني والطبيعي بغرض بلوغ حقيقة قضية ما.
 وموضوع المشكلة العلمية هو الفيزيقا(الطبيعة) وهي مجمل المساءل العلمية المحسوسة مثل:المادة(الجامدة،الحية)،الذرة،البرق،الضوء...،وقد كان تاريخ العلم واسعا بفضل تعدد مواضيعه،حيث عبر الأستاذ محمود يعقوبي عن موضوع العلم ومشكلاته بقوله:«...وقد كانت الهندسة وعلم الفلك أول العلوم ظهورا،لسهولة اكتشاف العلاقات الثابتة بين وضعيات الكواكب وعناصر الأشكال الهندسية،ولم تضبط القوانين الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية إلا في وقت متأخر لتشابك ميادينها»

فإن الإشكالية الفلسفية تبحث في الميتافيزيقا والتي تعني ما بعد الطبيعة أي المواضيع المجردة والخاضعة للتأمل العقلي مثل:الإنسان،التربية،الأخلاق،الحرية،الديمقراطية، ،القضاء والقدر...،وقد عرف إيمانويل كانط الميتافيزيقا بقوله:«... إنّها جهد عقلي مستقل  عن التجربة»دلالة على تمييزه بين ميدان العلم والفلسفة.

واختلافهما في الموضوع يحيل بنا إلى التأكيد على منهج كل منهما،فالإشكالية الفلسفية تعتمد على المنهج التأملي العقلي،إذ الفيلسوف يعتمد على الاستنتاج الذي هو عملية عقلية ينتقل فيها الفكر من العام إلى الخاص،وذلك بالبحث عن العلل الأولى للقضايا الفلسفية،إذ يحاول الفيلسوف أن يبرهن على الحلول التي يقدمها بالحجج المقنعة واستعمال اللغة باعتبارها خطابا فلسفيا،
حيث يكون الاندهاش الينبوع الحقيقي والمرافق دوما والمرافق دوما للفلسفة لأن علاقة الاندهاش بالفلسفية هو سبب فعل التفلسف وهو شعور الإنسان بجهله من أجل الهروب من الجهل وتخطيه،حيث يقول أرسطو:«...إن الاندهاش في الواقع هو الذي،كما هو حاصل اليوم،دفع المفكرين الأولين إلى فعل التفلسف»

بينما المشكلة العلمية فتعتمد على المنهج التجريبي الذي يتشكل من :الملاحظة : هي عبارة عن مشاهدة لظاهرة ومتابعة لكل مراحلها و تتميز الملاحظة العلمية بما يلي: أنها تتجاوز مجرد المشاهدة فهي انتباه وتركيز وإدراك عقلي،و مجهزة بأجهزة علمية تعتبر امتدادا لحواس البحث،كما تعتمد على التقدير الكمي وقد تكون كمية.والفرضية : هي تلك الفكرة التي يقدمها العالم انطلاقا من ملاحظاته  ، وهي تفسير مؤقت لظاهرة فهي ظن وتخمين أو مشروع قانون يحدد لنا الكيفية التي سوف يتم بها الأجراء التجريبي.والتجريب: هي أحداث واقعة علمية في  شروط مخبريه اصطناعية يحددها الباحث ، لهذا يقول كلود برنارد :"إن التجريب هو الوسيلة الوحيدة التي نملكها لنتطلع  على طبيعة الأشياء التي هي خارجة عنا "
وأخيرا القانون العلمي الذي هو المرحلة النهائية لما وصل إليه العالم من خلال الخطوات الأولى للتجريب،وهو يمتاز بكونه قانون عام وشامل يصدق على جميع العناصر الجزئية الأخرى،حيث عبر محمود يعقوبي عن هدف العلم بقوله:«...ومهما استهدف العلم ضبط العلاقات بين الحوادث وصياغتها في قالب رياضي،فإنه يبقى دائما متصلا بالواقع العيني.وكلما أمعن العلم في التجريد المتمثل في صياغة القوانين كلما انضبط تنبؤه»



وتتناول الفلسفة إشكالياتها بطريقة وصفية كيفية بينما يعتمد العلم على طريقة التكميم  و صياغة نتائج التجارب العملية صياغة رياضية مضبوطة ، أمّا من ناحية الشمولية و العموم ، فإن ميدان الفلسفة أشمل بكثير من ميدان العلم ، لأنها تشتمل مباحث الوجود و القيم و المعرفة ، بينما لا يتجاوز مجال العلم ميدان المعرفة الإنسانية الحسية.

 

أوجه التشابه:
من أوجه الاتفاق الرئيسية بين المشكلة العلمية والإشكالية الفلسفية أن:
كلاهما عبارة عن تفكير نقدي بناء وفاعلية فكرية إنسانية تمكن الإنسان من تجاوز الأفكار الخرافية والأسطورية،إذ الاشتغال بهما يمكن الإنسان من توجيه فكره  والتمكن من الكشف عن حقائق العالم الخارجي الفيزيقية والميتافيزيقية
وهو ما عبر عنه باستور بقوله:«...لا تقرروا شيئا من غير أن تبرهنوا عليه برهانا نهائيا،آمنوا بالروح الانتقادية».
كل منهما ينطلق من منهج إذ المشتغل بهما ينتهج طريقة تمكنه من البحث عن حقيقة الموضوع الذي يخوض فيه،وبالتالي فكلاهما ينطلقان من المنطق وهو مجموعة من القواعد والقوانين التي تنظم فكر الباحث وتمكن فكره من الانطباق مع نفسه ومع الواقع وهذا ما نسميه بالاستدلال وهو الانتقال من مقدمات للوصول إلى نتائج.
وكل منهما يملك موضوعا مرتبط بالوجود الإنساني والعالم الخارجي سواء كان الموضوع مادي وبالتالي فميدانه العلم أو غير مادي وبالتالي ميدانه الفلسفة،وينم ذلك عن اشتراكهما في الدافع من حيث الميل الطبيعي في الإنسان إلى التطلع وحب الاكتشاف المتجسد في الفضول المعرفي لمواجهة العجز في فهم بعض مسائل العالم الخارجي،من جانب آخر لا تقدم الفلسفة و لا العلم إلا إجابات تقريبية ونسبية للقضايا التي تواجه الإنسان وبالتالي يشتركان في عدم قطعية نتائجهما،وهما ميدانين يهتمان باستقصاء الحقيقة المرتبطة بالعالم الخارجي والتي تصبح معرفة تمكن المجتمعات من بناء حضاراتها والتكيف مع الواقع،حيث أكد روني ديكارت على أهمية التفكير النقدي سواء كان علما أو فلسفة بقوله:"...ولكن الإنسان الذي يشكل الفكر الجزء الرئيسي منه،ينبغي له أن يوجه اهتماماته الرئيسية نحو البحث عن الحكمة التي هي الغذاء الحقيقي للفكر".


أوجه التداخل:إن أوجه الاختلاف وأوجه التشابه الموجودة بين المشكلة العلمية والإشكالية الفلسفية تفترض وجود علاقة بينهما وهي علاقة اتصال وتداخل وظيفي ذلك أن المشكلات العلمية تتحول إلى اشكاليات فلسفية عندما يعجز العلم عن معالجة مشكلاته فيلجأ العالم إلى الفلسفة وتصبح نتائج العلم موضوعا للفلسفة،ويجتمعان معا في مبحث الابستمولوجيا(فلسفة العلوم) باعتبارها الدراسة النقدية لمبادئ ونتائج وفروض العلم بهدف ضبطه،حيث دعى غاستون باشلار إلى الربط بين العلم والفلسفة لمدى أهمية كل منهما للآخر حيث يقول:«...على الفيلسوف أن يكون على صلة بالتجارب العلمية...وأن يأخذ العلماء أهمية للمذاهب الفلسفية النقدية...لأن الانفصال بين الاثنين لن يكون في مصلحة أحدهما»

الرأي الشخصي:إني أرى بدوري أنه توجد علاقة تداخل بين المشكلة العلمية والإشكالية الفلسفية إذ أن تقدم العلم قد طرح مشكلات أخلاقية،والأخلاق مبحث فلسفي وبالتالي تحضر الفلسفة لتحاكم نتائج العلم من زاوية أخلاقية وكمثال على ذلك:عمل العلم على معالجة العقم،ولكنه فتح أيضا إمكانية أن ينجب الإنسان بعد وفاته بعشرات السنين،فهل يحق لميت مضى على وفاته كل هذه السنين أن يكون له ولد؟ حيث يعبر الباحث الفلسطيني جورج زيناتي بقوله:«...إن التقدم العلمي نفسه هو الذي يفرض أن تلازمه الفلسفة كضمير يحدد له أسس توجه البشرية المستقبلي...ومن هنا كانت الحاجة إلى ما يسمى بأخلاقيات علوم الحياة Bioéthique»

 

خاتمة:نستنتج من خلال التحليل السابق أنه توجد علاقة تداخل وظيفي بين المشكلة العلمية والإشكالية الفلسفية فعلى الرغم التمايز الموجود بينهما من حيث التعريف وخاصية مجال كل منهما إلا أن هذا لا يمنع من التأكيد على العلاقة التواصلية بينهما،وهذا ما أكد عليه بول ريكور عن العلاقة التلازمية بين العلم والفلسفة بقوله:«...أن الفلسفة تموت إن نحن أوقفنا حوارها الألفي مع العلوم،أكانت العلوم الرياضية أم العلوم الطبيعية أم العلوم الإنسانية»


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل الذاكرة ذات طبيعة مادية أم نفسية؟

قارن بين العلم والفلسفة (خاصة بالعلميين واللغات)

هل معيار الحقيقة العمل النافع أم تأمل الإنسان لعالمه الداخلي؟