السؤال:هل يمكن تطبيق المنهج التجريبي على الظاهرة الإنسانية ؟


السؤال:هل يمكن تطبيق المنهج التجريبي على الظاهرة الإنسانية ؟
مقدمة : تعتبر العلوم الإنسانية آخر العلوم انفصالا عن الفلسفة،ويعود الفضل في ذلك إلى العلوم الطبيعية التي ابتكرت منهجا تجريبيا مكنها من التمايز عن الفلسفة في معالجة قضاياها باعتبار الطبيعة كتاب مفتوح يجب قراءته قراءة تجريبية،غير أن مشكلة المنهج الملائم لدراسة الظاهرة الإنسانية قد أثار جدلا بين فلاسفة العلم الذين انقسموا على رأيين متناقضين،فهناك رأي أول أكد على أن الظاهرة الإنسانية جزء من الظاهرة الطبيعية ويجب دراستها دراسة تجريبية،غير ان هذا الطرح قوبل باعتراض من رأي ثان أكد على أن الظاهرة الإنسانية ليست جزءا من الظاهرة الطبيعية ولا يجب دراستها دراسة تجريبية،وللفصل بين الرأيين سنقوم بإثارة التساؤل التالي:هل يمكن تجاوز العوائق الابستمولوجية التي تمنع من التجريب على الظاهرة الإنسانية؟ وهل يمكن دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة علمية وموضوعية؟
الموقف الأول:يرى أنصار هذا الموقف أنه يمكن تطبيق المنهج التجريبي على الظاهرة الإنسانية،ويمثل هذا الموقف أصحاب المدرسة الوضعية بزعامة كل من: أوغست كونت،إيميل دوركايم،وقد اعتمد أصحاب هذا الموقف على مجموعة من الحجج أهمها:
يؤكد أوغست كونت أن الظاهرة الإنسانية أو الاجتماعية يمكن دراستها دراسة تجريبية وذلك تماشيا مع تطور الكشف العلمي إذ أن الظاهرة الإنسانية هي عبارة عن علاقات اجتماعية مبنية على التفسير السببي،وهي شبيهة بالفيزياء في خصائصها لهذا لا مناص من الكشف عن القوانين والعلاقات السببية التي تحكمها باعتبارها فيزياء إنسانية قابلة للدراسة التجريبية،حيث يقول أوغست كونت:«...ما دامت لا توجد ظاهرة قابلة للملاحظة ستخطئ الدخول في إحدى الفئات الخمس الموالية بمجرد إنشائها وهي:الظواهر الفلكية،والفيزيائيـــــةوالكيميائيـــــــــــة،
والفيزيولوجية،والاجتماعية »ومعنى ذلك أنه لا يوجد أي عائق من التجريب على الظاهرة الإنسانية على اعتبار أنها جزء من الطبيعة باعتبارها كتاب مفتوح قابل للكشف العلمي.
ويؤكد على الفكرة نفسها إيميل دوركايم الذي اعتقد ان الظواهر الانسانية قابلة للدراسة التجريبية باعتبارها "أشياء"قابلة للملاحظة والتجريب وبهذا يتجاوز عائق طبيعة الموضوع فاتحا الأمل أمام علمية العلوم الانسانية،كذلك فالظاهرة الإنسانية يمكن الكشف عن قوانينها التي تتحكم فيها حيث يقول إيميل دوركايم:«...وحينئذ،فمعنى أننا نعالج الظواهر على أنها أشياء هو أننا نعالجها على أساس أنها أشياء تقدم نفسها للملاحظة كنقطة بدء للعلم...ويجب أن ندرس هذه الظواهر من الخارج على أنها أشياء خارجية،مادامت لا تقع تحت ملاحظاتنا إلا بهذه الكيفية»
نقد:لقد بالغ أنصار هذا الموقف عندما أكدوا على ضرورة تطبيق المنهج التجريبي على الظاهرة الإنسانية مهملين ذلك التمايز بين طبيعتها وخصائص الظاهرة الطبيعية،ذلك أن الظاهرة الإنسانية معقدة وبالتالي ستعيق البحث التجريبي إذا ما طبقناه عليها،كما أنها بعبدة كل البعد عن مبدأ الحتمية.
الموقف الثاني : :يرى أنصار هذا الموقف أنه لا يمكن تطبيق المنهج التجريبي على الظاهرة الإنسانية،ويمثل هذا الموقف مجموعة من فلاسفة العلم أهمهم:جان بياجي،محمد عابد الجابري،وقد اعتمد أصحاب هذا الموقف على مجموعة من الحجج أهمها:
يؤكد جان بياجي على أن الظاهرة الإنسانية متمايزة في خصائصها للظاهرة الطبيعية وهذا ما يفتح الباب أمام العوائق الابستمولوجية التي تواجه الباحث أثناء دراسته وأهم هذه العوائق:
عائق متعلق بطبيعة الموضوع:ومعناه ان الظاهرة الإنسانية معقدة من حيث طبيعتها وبالتالي فالذات الإنسانية هي ذات تمتاز بالعقل والفكر والإرادة،ما يجعلها موضوعا يمتاز بالتغير وعدم الثبات غير قابل للتفسير السببي أو الخضوع لمبدأ الحتمية مثلما هو الشأن في العلوم الطبيعية،إذ يوجد فرق بين الأفعال الإنسانية وبين الظاهرة الطبيعية ،وهذا ما يقودنا إى ثان العوائق وهي أن الباحث في ميدان العلوم الإنسانية دارس ومدروس في الوقت نفسه،إذ أن الذات الدارسة تلاحظ وتجرب على نفسها أو على ذوات تشترك معها في الخصائص نفسها ما يجعلها تقدم لنا تفسيرات ذاتية بعيدة كل البعد عن الموضوعية،فمبدأ الموضوعية يفترض الابتعاد عن التفسيرات الشعورية والأحكام المسبقة ما يعيق أخذ عينات إنسانية والتجريب عليها ثم التعميم بهدف ضبط قانون عام وشامل،حيث يعبر جان بياجي عن موقفه بقوله:«...إن وضعية علوم الإنسان أشد تعقيدا لكون الذات التي تلاحظ او تجرب على نفسها أو على الذوات الأخرى المماثلة لها،قد يلحقها تغيير مصدره الظواهر التي تتم ملاحظتها من جهة،كما يمكن أن تكون الذات من جهة اخرى مصدر تغييرات في مجرى هذه الظواهر بل حتى في طبيعتها »
كما يؤكد المفكر المغربي محمد عابد الجابري على أن الباحث في ميدان العلوم الإنسانية تواجهه عوائق منها عائق الموضوعية الذي يعتبر إحدى شروط العلم الدقيقة،وذلك راجع لطبيعة الموضوع المدروس وخصائصه مثل صفتها المعنوية والكيفية وتعقيدها،وهذا ما يوقع الباحث في الذاتية،ويعبر عن هذه الفكرة بقوله:«...ولكن هذه الشروط لا تتوفر في الظاهرة الإنسانية عند محاولة البحث فيها،إذ ان ملاحظاتنا وأحكام الدارس تتأثر بانتماءاته وثقافته وتربيته وتصوراته الخاصة»
نقد:لقد بالغ هذا الموقف عندما أكدوا على عدم ملائمة المنهج التجريبي على الظاهرة الإنسانية معتمدين على تلك العوائق الابستتمولوجية دون تقديم بديل يمكن من دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة علمية،في حين ان بعض المدراس مثل مدرسة الفهم والتأويل استطاعت البرهنة على ذلك التمايز بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية مؤسسين بذلك لمنهج الفهم والتأويل كمنهج ملائم لطبيعة الظاهرة الإنسانية ومتجاوزين لبعض العوائق الابستمولوجية.
الموقف الثالث: يرى أنصار هذا الموقف أنه يمكن دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة علمية بمنهج مغاير للمنهج التجريبي وإعطاء الأهمية العلمية وتجاوز كل ما يعيق الكشف عن ماهيتها،ويمثل هذا الموقف مجموعة من العلماء أهمهم: دلتاي،وقد اعتمد أصحاب هذا الموقف على مجموعة من الحجج أهمها:
يؤكد دلتاي أن الوقائع الإنسانية يمكن دراستها دراسة علمية مع مراعاة خصائصها المتمايزة عن الظواهر الطبيعية على اعتبار ان الموضوع يفترض المنهج الملائم لدراسته،فإذا اعتبرنا ان الظاهرة الطبيعية تفسر كما تبدو لنا في ملاحظاتنا العلمية فإن الظواهر الإنسانية لا يجب أن تفسر بل أن تفهم لأن الامر يتعلق بالتجربة المعيشة،ذلك أن الأنشطة الإنسانية باعتبارها فعالية فكرية تتميز بامتلاكها لعنصري الوعي والإرادة،لهذا فمن واجب الباحث في ميدان العلوم الإنسانية أن يقوم بتأويل الوقائع الإنسانية وفهمها بفضل منهج الفهم والتأويل لا المنهج التجريبي حتى يتسنى لنا العودة إليها والتفكير فيها واستجلاء ما هو خفي منها،ذلك أن الوقائع الإنسانية باعتبارها فعالية فكرية تتميز عن المادة بتوفيرها على عنصري الوعي والإرادة وبالتالي فنحن مطالبون علميا بالكشف عنها وفهمها،حيث يقول دلتاي:«...ترتكز علوم الفكر(العلوم الإنسانية)على العلاقة بين التجربة المعيشة والتعبير والفهم.وهكذا فتطورها يتعلق أيضا بالعمق المتزايد للتجارب المعيشة بنفس قدر تعلقه بتوجهها الموسوم أكثر فأكثر باستنزاف محتواها،وهو مشروط باتساع الفهم إلى كل ما يجعل الفكر موضوعيا ومشروطا أيضا ودائما بمجهود إبراز مختلف تعابير الحياة بشكل أكثر اكتمالا وأكثر منهجية،إنه العنصر الفكري»
الرأي الشخصي (خاص بالتلميذ مع التبرير)
........................................................................................................................................................................................................
خاتمة:نستنتج من خلال التحليل السابق أن مشكلة دراسة الظاهرة الإنسانية هي مشكلة متعلقة بالمنهج الذي يلاءم طبيعتها المتمايزة عن الظاهرة الطبيعية وبالتالي دراستها دراسة علمية وموضوعية ،وهذا ما يؤيده قول لازرسفيلد:«...فالعلم يختار بعض خصائص موضوعه ويجتهد في إقامة العلاقات بينها.إن الكشف عن مثل هذه القوانين يمثل النهاية المشروعة لكل بحث علمي»


تعليقات

  1. يامن كتب هذه المقالة اين هو التركيب او التغليب او التزاوج
    وهل هي صحيحة لاني ساحفض مقالات فضلا منك

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل الذاكرة ذات طبيعة مادية أم نفسية؟

قارن بين العلم والفلسفة (خاصة بالعلميين واللغات)

هل معيار الحقيقة العمل النافع أم تأمل الإنسان لعالمه الداخلي؟