السؤال:هل الإنسان مسؤول مسؤولية تامة عن جميع أفعاله؟


السؤال:هل الإنسان مسؤول مسؤولية تامة عن جميع أفعاله؟
مقدمة: تعتبر المسؤولية من بين المفاهيم الفلسفية التي شغلت فكر الفلاسفة لمدى اهميتها في تنظيم الشؤون الاجتماعية والسياسية على اعتبار أن تمتع الإنسان بقدرات عقلية ونفسية تؤهله ليكون الكائن الوحيد المكلف كونه مسؤولا،غير أن طبيعة المسؤولية قد أثارت جدلا بين الفلاسفة الذين انقسموا إلى رأيين متناقضين،فالرأي الأول اكد على أن المسؤولية شرط ضروري للحكم على أفعال الإنسان لأنه حر،غير أن هذا الطرح رفض من طرف رأي ثان أكد على أن المسؤولية ليست شرطا ضروريا للحكم على أفعال الإنسان لأنه ليس حرا،وللفصل بين الرأيين سنقوم بإثارة التساؤل التالي: وبعبارة أخرى:هل يمكن نفي المسؤولية في ظل وجود حتميات؟
الموقف الأول:يؤكد أصحاب الموقف الأول أن الإنسان مسؤول مسؤولية تامة عن جميع أفعاله ويمثل هذا الموقف أصحاب النزعة العقلية بزعامة كل من:أفلاطون،فرقة المعتزلة وإيمانويل كانط،وقد اعتمدوا على مجموعة من الحجج لتبرير موقفهم اهمها:
أن الإنسان خالق لأفعاله بنفسه ويميزها بعقله وينفذها بإرادته،ومن ثم فهو مسؤول عن كل ما يقوم به من أفعال مهما كان نوعها، ما دامت نابعة من إرادته الحرة والعاقلة،وقد أكد الفيلسوف اليوناني أفلاطون على أن الإنسان مسؤول عن أفعاله مسؤولية مطلقة وأن الله بريء من كل الشرور الموجودة في العالم بما فيها أفعال الشر التي يقوم  بها الإنسان،على اعتبار ان الإنسان إنطلاقا من كونه يتمتع بالحرية فإنه يبرر علاقتها بالمسؤولية وعلاقة الإنسان بها من خلال أسطورة الجندي آر Er كما صوره من خلال كتابه الجمهورية مانصه:«أن الجندي استشهد في ساحة الشرف،يعود إلى الحياة من جديد بصورة لا تخلو من المعجزات،فيروي ويصف لأصدقائه الأشياء التي تمكن من رؤيتها في الجحيم حيث إن الأموات يطالبون بان يختاروا بمحض حريتهم،مصيرا جديدا لتقمصهم القادم.وبعد ذلك،أي بعد اختيارهم،يشربون من نهر النسيان ليثهLéthé  ثم يعودون إلى الأرض.وفي الأرض،يكونون قد نسوا بأنهم الذين اختاروا مصيرهم،ويأخذون في اتهام القضاء والقدر في حين أن الله بريء»
أما فرقة المعتزلة فاعتبرت أن الإنسان مسؤول عن تبعات أفعاله،لأن الأفعال التي يقوم بها،إنما يمارسها بإرادته الحرة،حسب الظروف التي تلامسه.ويعتقدون أن القول بأن الإنسان مسؤول ومحاسب على أفعاله،حجة على عدل الله سبحانه وتعالى،وأنه لا يمكن أن تصدر عنه مباشرة معاصي الإنسان،فالإنسان في نظر المعتزلة خالق لأفعاله،حيث تقول المعتزلة: «الانسان يخلق أفعاله بحرية لأنه بعقله يميز بين الخير والشر،فهو مخير لا مسير،وبالتالي فهو مكلف مسؤول»
وقد أكد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط بأن الفرد الشرير يختار سلوكه الاجرامي بإرادته بعيدا عن كل الأسباب والبواعث،ولهذا وجب عقابه والفكرة نفسها يؤكدها هيغل لأنه عقاب المجرم مشروع ويستمد مشروعيته من الطبيعة الحرة والعاقلة للإنسان.ويقول كانط:«... إن الشرير يختار فعله بإرادة بعيدا عن تأثير الأسباب والبواعث فهو بحريته مسؤول.» كذلك اعتبر الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر ان الإنسان مسؤول لأنه يتمتع بالحرية التي تمثل جوهر الإنسان على اعتبار ان الإنسان محكوم عليه أن يكون حرا ونفس الشيء يفترض وجود المسؤولية ولا يمكن نفيها حيث يقول :"...إني مسؤول عن كل شيء،ومسؤوليتي تمتد حتى إلى تلك الحرب التي اشتركت فيها،كأنني انا الذي أعلنتها تماما"
نقد:لكن صحيح أن الإنسان مسؤول عن أعماله وتبعات أفعاله حينما يقوم بها عن طواعية واختيار،غير أن هناك ظروفا وعوامل تدفع الإنسان إلى اقيام بفعل ما،وهذا العوامل إما ان تكون نفسية أو بيولوجية أو اجتماعية،فالعوامل النفسية قد تسبب للفرد انحرافات في الشخصية كالأهواء الجامحة والانفعالات القوية،والعقد النفسية ،وفي هذه الحالة يعتبر المتهم مصابا بمرض نفساني وغير مسؤول عن جريمته بسبب أنه غير سوي وهذه الأمراض هي التي تحد من حريته.
الموقف الثاني:يؤكد أصحاب الموقف الثاني أن  الإنسان ليس مسؤولا مسؤولية تامة عن جميع أفعاله ويمثل هذا الموقف أصحاب النزعة الوضعية بزعامة كل من:سيزار لومبروزو،أنريكو فيري،وقد اعتمدا على مجموعة من الحجج لتبرير موقفهما اهمها:
أن الإنسان خاضع لمجموعة من الحتميات التي تجعله يستجيب بطريقة آلية لمختلف المواقف دون تدخل إرادته في ذلك،وبالتالي فإنه لا يتحمل نتائج أفعاله بمفرده،وهنا يصبح الفرد غير مسؤول عن تلك الأفعال بما فيها الأفعال الاجرامية،وقد برر عالم الأحياء الإيطالي لومبروزو ذلك عندما اكد على الحتمية البيولوجية باعتبارها السبب في اسقاط المسؤولية خصوصا في حالة الإجرام،إذ لا يختار الفرد السلوك الاجرامي بإرادته بل إن إرادته هي ثمرة بواعث بيولوجية ونفسية واجتماعية تجعل من المجرم ضحية لها، والإجرام هنا يعود إلى نقائص بيولوجية يولد الفرد المجرم مزودا بها ويمكن أن تصل هذه الاستعدادات الحاصلة بالوراثة إلى حد القول بوجود كروموزومات اجرام تنتقل من الآباء إلى الأبناء.
كما أكد "لومبروزو" أيضا على أن أساس المسئولية الجنائية ليس حرية الاختيار كما يدعي الفكر التقليدي، بل الحتمية نظراً لأن المجرم مدفوع إلي الجريمة دفعا بحكم التكوين البيولوجي، وبالتالي فإن رد الفعل الاجتماعي ضد الجريمة والمجرم يجب أن يتمثل في تدابير وقائية (احترازية). تحمي المجتمع من الخطورة الاجتماعية للجناة. فيجب إذن أن تحل الجبرية محل حرية الاختبار. وأن تحل التدابير محل العقوبة، وأن تحل فكرة المسئولية الاجتماعية محل فكرة المسئولية الجنائية.
أما المفكر الإيطالي أنريكو فيري Enrico Ferriفيرى أن الحتمية الاجتماعية هي أحد الاسباب لنفي المسؤولية عن الأفراد لأنهم مدفوعون نحو أفعال تستدعي اسقاط المسؤولية التامة عنهم،فالإجرام مثلا الاجرام يعود إلى أسباب اجتماعية بالأساس،فالفقر المدقع والغنى الفاحش كلاهما يدفع الفرد إلى ارتكاب الجريمة.حيث يقول:«...إن الجريمة ثمرة حتمية لظروف اجتماعية وتربوية خاصة الفقر المدقع والثروة المفرطة،كلاهما يبحث عن ارتكاب الجرائم»
وبالتالي فأفعال الإنسان في نظر الاتجاه الوضعي وما يصدر عنه من شرور يرجع إلى أسباب خارجية تدفع بالفاعل إلى ارتكاب فعلته،وما دمنا نريد ابعاد الشر ومنعه،فإنه يتعين علينا القضاء على أسبابه،لأن ربط الشر بأسبابه يجعله قابلا للزوال عن طريق إزالتها ذلك ان السلوك الاجرامي مثلا يخضع للحتمية التي يمكن معها التحكم فيه عن طريق التنبؤ به،وإعداد وسائل التخلص من دواعي الشر.ويعبر ألبير بايي مؤكدا موقف الاتجاه الوضعي بقوله:«...فإذا انتصرت الحتمية الاجتماعية،وهو ما يحق لنا أن نرجوه،فإن المجتمعات ستظل تنكر الجريمة والكذب والسرقة وستمضي في محاربتها،ولكنها لن توقع (العقاب) على الجاني بل ستداويه بعد ان تكون قد حالت بينه وبين الأضرار بالناس،ولن تشدد النكير على الجريمة بل ستهتم بتبيين عللها ووجوه القضاء عليها»
نقد:لكن الاتجاه الوضعي قد بالغ عندما أسقط المسؤولية عن الإنسان بحجة مجموعة من الحتميات الخارجية التي تدفع الإنسان إلى ارتكاب سلوكات تخرج عن نطاق وعيه،كما انهم اهتموا بالمجرم دون الجريمة،ذلك أن آثار الجريمة تمس الغير بالدرجة الأولى مما يجعل سخط الرأي العام يشتد حسب شناعتها بقطع النظر عن دوافعها،ثم إن المجتمع لا يستسيغ الاكتفاء بتغريم المجرم أو الزج بالسارق في السجن لان ذلك يتعارض مع الجانب الاخلاقي،كذلك فرض المدرسة الوضعية لمبدأ الحرية الاختيار بحجة أنه مبدأ ميتافيزيقي غامض،فإن مبدأ الحتمية هو مبدأ يتحكم في الحوادث الطبيعية أما في ميدان أفعال الإنسان فيختلف باختلاف إرادة كل شخص.
الموقف التركيبي:يرى الموقف التركيبي أن علاقة الإنسان بالمسؤولية هي علاقة مرتبطة بطبيعة الموقف الذي يعيشه على اعتبار أن الإنسان لا يعيش منفردا بل تحيط به علاقات اجتماعية فتنتقل ممارسته للمسؤولية من الطابع الأخلاقي الذاتي إلى الطابع الاجتماعي الموضوعي فيخضع الفرد إلى القانون الاجتماعي الذي يفترض عليه الإلتزام به إلتزاما اخلاقيا فيتمتع بالمسؤولية لأنه واع لتبعات أفعاله خيرها وشرها،أما بالنسبة للجزاء فهو وسيلة من الوسائل التي يدافع بها المجتمع عن نظامه العام وعلى الأفراد أن يحافظوا على المنفعة العامة بهدف الحفاظ على حقوقهم وحقوق غيرهم بالالتزام بواجباتهم.
الرأي الشخصي(خاص بالتلميذ مع التبرير)
............................................................................................................................................................................................................................................................................................................................................
خاتمة:نستنتج من خلال التحليل السابق أن المسؤولية نسبية وليست مطلقة ولا يمكن فصلها عن الإنسان لأنه يمتاز بالقدرة على اختيار أفعاله،فيعاقب كما يجازى عليها،أما الحتميات على اختلاف أنواعها لا يمكن اعتبارها عائقا أمام تمتع الإنسان بالمسؤولية ذلك أن الطفل لا يعتبر مكلفا إلا إذا بلغ سن الرشد غير أن تنشئته الاجتماعية هي من تهيؤه ليكون مسؤولا.


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل الذاكرة ذات طبيعة مادية أم نفسية؟

قارن بين العلم والفلسفة (خاصة بالعلميين واللغات)

هل معيار الحقيقة العمل النافع أم تأمل الإنسان لعالمه الداخلي؟