هل الحقيقة مطلقة ام نسبية؟

مقدمة:تعتبر الحقيقة من بين المفاهيم الفلسفية التي شغلت الفكر الإنساني،حيث كان كل عصر يسعى لامتلاك الحقيقة،وقد حاول أوغست كونت استقراء تاريخ الحقيقة التي آمن بها الفكر الإنساني في كل عصر من عصور التاريخ،فكانت اولى الحقائق التي اهتم بها الإنسان الحقيقة الدينية ثم انتقل إلى الحقيقة الفلسفية وأخيرا تأتي الحقيقة العلمية تلبية لحاجة العصر،إلا أن كارل ياسبرس أعطى مفهوما للبحث عن الحقيقة بأنه السعي وراء الحقيقة وليس امتلاكها،ولتحديد قيمة الحقيقة فقد اختلف الفلاسفة حول قيمتها،فانقسم الفلاسفة إلى رأيين متباينين ،فالرأي الأول أكد على أن الحقيقة واحدة ولا يمكن الشك فيها أو تغييرها،غير أن الرأي الثاني فند الرأي الأول وأكد على أن الحقيقة متعددة ويمكن الشك فيها وتغييرها،ولتهذيب الرأيين سنقوم بإثارة التساؤل التالي:هل الحقيقة في طبيعتها واحدة أم انها قابلة للتعدد والنسبية؟

الموقف الأول:يرى أصحاب الموقف الأول أن الحقيقة مطلقة،ويمثل هذا الموقف كل من أفلاطون،أرسطو،المتصوفة، ديكارت و سبينوزا،وقد اعتمد أصحاب هذا الموقف على مجموعة من الحجج أهمها:

يميز " أفلاطون " بين عالَمين،عالم الأشياء وعالم المثُل؛الأول يشكل مادة إدراك حواسنا،فهو لا يتوقف عن التحول،وقابل للفناء؛والثاني عالم وراء الأشياء وهو خاص بعقول الموهوبين،ولا تدركه الأبصار التي في الأجساد .وفي هذا العالم،يعاين الفيلسوف سلسلة من المثل،الخير المطلق والجمال المطلق والدائرة الكاملة ونماذج لكل نوع: الحصان النموذج والمدينة الفاضلة. إنه لَعالم دائم وخالد. هو عالم الحقيقة،وما عالم الأشياء سوى أشباحٍ وظلال. وأعلى حقيقة مطلقة في السلم مثال الخير .ويليه الجمال والأشكال الهندسية من دائرة ومثلث . والفضيلة الأخلاقية تستوجب التخل من عالم الفناء بحثا عن الحقيقة المطلقة في العالم الفوقي.

والحقيقة المطلقة عند " أرسطو " تكمن في " المحرك " الذي لا يتحرك ، ويقصد بالمحرك ، الله . يتساءل كيف بدأت الحركة ، وكيف تم هندسة الكون الواسع بأشكال لا نهاية لها ؟ وهو لا يقبل إمكانية أن تكون الحركة بلا بداية . فلا بد من أن يكون للحركة مصدر ، إذا أردنا ألا نغطس في رجوع لا نهائي . يجب أن نقوِّي الإيمان بالله المحرك الأكبر ، ولكنه هو نفسه لا يتحرك وهو كائن غير مرئي لا يتغير ، كائن تامٌّ وأبدي ؛ إنه السبب النهائي للطبيعة والقوة الدافعة للأشياء وهدفها ؛ إنه باختصار ، صورة العالَم ومبدأ حياته .

يؤكد المتصوفة أيضا على الحقيقة المطلقة من خلال الحقائق الذوقية وهي الشعور الذي يستولى على المتصوف عند بلوغه الحقيقة الربانية المطلقة . فهو يستقي علمه من الله رأسا ، وذلك عن طريق الحدس .ولقد أخذ الصوفية " المتفلسفة " يستهدفون انطلاقا من القرن الثالث للهجرة ،الاتحادَ بالله عن طريق الفناء ، كما هو عند " أبي يزيد البسطامي " )ت. 291هـ (، أو عن طريق حلول الله في مخلوقاته فيما ذهب إليه " الحلاج " ) ت. 301هـ( ، أو عن طريق التقاء وجود الخالق ووجود المخلوق إثباتا لوحدة الوجود ،فيما يقول " محي الدين بن عربي " ) ت. 930 هـ ( . ولا يتم ذلك ، إلا بمجاهدة النفس ، وليس بعناء البحث في الحقيقة اللاهوتية وتوكيد تعاليمها بمنطق العقل ، كما يفعل فلاسفة الكلام واللاهوت . وتنبجس الحقيقة الذوقية بنور يشرق في النفس من مصدر يقوم وراء العقل والعلم عند أهله ، يجيء عن طريق الحدس )أو الذوق أو الكشف أو العيان (الذي يقابل البرهان العقلي عند الفلاسفة والمتكلمين . والغاية في كل الحالات ، الاتصال بالله اتصالا مباشرا تتحقق به السعادة الكاملة . والحقيقة اللَّدُنّية تجيء بارتفاع حجاب الحس المرسل بين القلب واللوح المحفوظ . من هذا النبع ، تفيض المعرفة اليقينية حيث يكون الله والمخلوقات حقيقةً واحدةً هي علة نفسها ومعلولة لنفسها ، كما قال " ابن عربي " . والسعادة تتحقق عند الفلاسفة بمجرد اتصال الحكيم بالله دون اندماجه في الذات الإلهية .

كما ذهب بعض الفلاسفة أمثال " ديكارت " و" سبينوزا " إلى أن الحقيقة مطلقة ذلك أن الحكم الصادق يحمل في طياته معيار صدقه ، وهو الوضوح الذي يرتفع فوق كل شيء .ويتجلى هذا في البديهيات الرياضية التي تبدو ضرورية واضحة بذاتها ، كقولك :الكل أكبر من أحد أجزائه أو إن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين .لقد كان أول قاعدة في المنهج الذي سطره " ديكارت " ألا يقبل مطلقا ،شيئا على أنه حق ما لم يتبين بالبداهة أنه كذلك ، وأن يُعنى بتجنب التسرع والتشبث بآراء سابقة ، وأن لا يأخذ من أحكامه إلا ما يتمثله عقله بوضوح تام وتمييز كامل ، بحيث لا يعود لديه مجال للشك فيه . وقد انتهى " ديكارت " إلى قضيته المشهورة : أنا أفكر إذن ، أنا موجود ؛ فوجدها واضحة أمام الافتراضات ،صحيحة كل الصحة بالضرورة ، وهي تزيد صحة كلما نطق بها " ديكارت "وأمعن النظر فيها . يقول في القسم الرابع من ) مقالته ( : " لاحظ أنه لا شيء في قولي : " أنا أفكر إذن ، أنا موجود " ، يضمن لي أني أقول الحقيقة ، إلا كوني أرى بكثير من الوضوح ، أن الوجود واجب التفكير . فحكم بأنني اَستطيع اتخاذ قاعدة عامة لنفسي ، وهي أن الأشياء ال نتصورها تصورا بالغ الوضوح والتمييز ، هي صحيحة كلها " . إني أشك كما يقول " ديكارت " ، ولكن ما لا أستطيع الشكَّ فيه ، هو أنني أشك وأن الشك تفكير .

نقد:لكن هذا الرأي مبالغ فيه لأن النظر إلى الحقيقة كونها مطلقة هي نظرة مثالية بعيدة عن الواقع،كما أن الإنسان لا يستطيع الوقوف عند حقيقة واحدة،إذ لكل عصر حقيقته التي يختص بها ويمتاز بها عن غيره من العصور وهو مانلحظه في تاريخ الفكر الانساني والحضارة.

الموقف الثاني:يرى أصحاب الموقف الثاني أن الحقيقة نسبية،ويمثل هذا الموقف كل من شارلز ساندرس بيرس، " وليام جيمس ، أينشتين،كلود بيرنار،جون بول سارتر،غاستون باشلار،وقد اعتمد أصحاب هذا الموقف على مجموعة من الحجج أهمها:

ذهب بعض أقطاب البراغماتية أمثال "بيرس" و"جيمس"  أن الحقيقة نسبية ذلك أن الحكم يكون صادقا متى دلت التجربة على أنه مفيد نظريا وعمليا ؛ وبذلك تعتبر المنفعة المحك الوحيد لتمييز صدق الأحكام من باطلها . يقول الأول : إن الحقيقة تقاس بمعيار العمل المنتج أي أن الفكرة خطة للعمل أو مشروع له وليست حقيقة في ذاتها. ويضيف الثاني أن النتائج أو الآثار التي تنتهي إليها الفكرة هي الدليل على صدقها ومقياس صوابها.إذا أردنا أن نحصل على فكرة واضحة لموضوع ما، كما يقول، فما علينا إلا أن ننظر إلى الآثار العملية التي نعتقد أنه قادر على أن يؤدي إليها، والنتائج التي ننتظرها منه ورد الفعل الضار الذي قد ينجم عنه، والذي يجب أن نتخذ الحيطة بإزائه. ويفهم من هذا القول، بأن الحق لا يوجد أبدا منفصلا عن الفعل أو السلوك. فنحن لا نفكر في الخلاء،وإنما نفكر لنعيش. وليس ثمة حقيقة مطلقة، بل هناك مجموعة متكثرة من الحقائق التي ترتبط بمنافع كل فرد منا في حياته.يقول " جيمس " : " إن كل ما يؤدي إلى النجاح فهو حقيقي ، وإن كل ما يعطينا أكبر قسط من الراحة وما هو صالح لأفكارنا ومفيد لنا بأي حال من الأحوال ، فهو حقيقي ". ويقول أيضا : " الحق ليس التفكير الملائم لغاية ، كما أن الصواب ليس إلا الفعل الملائم في مجال السلوك " .

وهنا ، نقتصر على الحديث عن الحقائق العلمية ، على الرغم من أن هناك بعض الفلسفات التي تنظر إلى الحقيقة على أنها تابعة لعوامل ومؤثرات .إن الحقيقة في المجال العلمي عبارة عن قوانين علمية تعبر عن العلاقات " الثابتة "بين الظواهر ؛ نضع الثابتة بين مزدوجتين ، لأنها علاقات لا تكتسي صفة الثبات إلا في شروط معينة ضمن التصور النيوتوني  لنظام الظواهر الطبيعية . ولكن ، مع انتشار نظريات علمية وفلسفية في مختلِف مجالات المعرفة ، أضح الحقائق العلمية تقريبية ، وخاصة مع ظهور النظرية النسبية العامة ل " آينشتاين " . إن النسبي لغةً ، هو المتعلق بغيره من حيث هو غيره ؛ فإذا دلَّ المطلق على الموجود في ذاته وبذاته ، دل النسبي على ما يتوقف وجودُه على غيره . ولما كانت الحقائق العلمية متوقفة على شروط منها المؤثرات الطبيعية ، وعوامل الحركة في الزمان والمكان ، والسياق أو النظام المرجعي الذي يأخذ به العلماء ة وعلى كون استقراء الموضوعات العلمية ما يزال مفتوحا ، ثبت أن العلماء يسعون وراء الحقيقة النسبية . فلكي يكون العلم مطلقا أي نهائيا ، لا بد من أن يكون تاما . ولكن علمنا لن يكون كاملا مطلقا في أية مسألة ، ولن يمدنا إلا بحقائق تقريبية , يقول "كلود برنار " : " يجب أن نكون حقيقة مقتنعين بأننا لا نمتلك العلاقات الضرورية الموجودة بين الأشياء إلا بوجه تقريبي كثيرا أو قليلا ، وأن النظريات ال نمتلكها هي أبعد من أن تمثل حقائق ثابتة " . إنها تمثل فقط، حقائق جزئية ومؤقتة. وهذا يخالف الموقف الفلسفي الأنطولوجي الذي يعتقد في الوصول إلى الحقيقة المطلقة . إن العلم الحديث ، كما يقول "باشلار " هو في الحقيقة "معرفة تقريبية".ولما كان من الممكن أن تتسع دائرة المعرفة العلمية على الدوام ، أمكن أن تصبح الحقائق التقريبية أكثر دقة دون أن تدرك أبدا درجة الدقة المطلقة .
يرى الوجوديون مع " سارتر " ،أن الحقيقة نسبية ذلك أن مجال الحقيقة الأولى هو الإنسان المشخَّص في وجوده الحسي ، وليس الوجود المجرد كما في الفلسفات الكلاسيكية . وحقيقة الإنسان هي في إنجاز ماهيته ؛ لأنه في بداية أمره لا يملك ماهية . فهو محكوم عليه بأن يختار مصيره ، ولكنه أيضا محكوم عليه بأن يموت . والحقيقة الأولى التي يجب التركيز عليها هي ممارسة هذه التجربة التي تجمع بين الحياة والموت وما ينتج عنهما من محن القلق والألم وثقل المسؤولية .

نقد:لكن هذا الرأي مبالغ فيه ذلك أن تطابق الفكر مع الواقع لا يعني نسبية الحقيقة،كذلك أن الإنسان لا يمكنه تصديق الحقيقة دون الوثوق بها وبالتالي فالحقيقة نسبية من حيث تعددها ومطلقة من حيث الأفكار التي تتبناها.

الموقف الثالث:يؤكد أصحاب الموقف التركيبي على أن الحقيقة مطلقة ونسبية معا،ذلك ان الحقيقة كاعتقاد لدى أي فرد لا يمكن الاستغناء عنها أو اعتبارها خاطئة،وبالتالي تشكل إيديولوجيا للفئات التي تعتقد بأفكارها مثل الفلسفة الماركسية وأنصارها فهم ينظرون للأفكار الماركسية على أنها حقيقة مطلقة ولا يمكن الشك فيها،أما عندما نبحث خارج مجال الأفكار التي نملكها فإننا نجد أفكارا أخرى لتصبح الحقيقة نسبية وكمثال عن ذلك:مفهوم العبادة واحد لدى جميع الناس لكنه يختلف من مجتمع لآخر،فنجد المجتمع الإسلامي والمسيحي واليهودي،والبوذي والهندوسي...فكل فرد يؤمن باعتقاداته على انها مطلقة اليقين لكننا ننظر إلى مفهوم التدين على أنه مطلق.

الرأي الشخصي:خاص بالتلميذ مع التبرير(إني أرى بدوري أن الحقيقة....)

خاتمة:نستنتج من خلال التحليل السابق أن الحقيقة مطلقة من حيث مبادئها وتصبح نسبية عند ممارستها أو البحث فيها،إذ لا يمكن الجزم بأحدهما دون الأخرى.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل الذاكرة ذات طبيعة مادية أم نفسية؟

قارن بين العلم والفلسفة (خاصة بالعلميين واللغات)

هل معيار الحقيقة العمل النافع أم تأمل الإنسان لعالمه الداخلي؟