سوسيولوجيا العنف والإرهاب للمراجعة خاص باللغات والعلميين



سوسيولوجيا العنف والإرهاب([1])
حجم الخط -18+للنشر:

يثير استمرار وتيرة العنف المتزايدة في عالمنا المعاصر الكثير من التساؤلات حول عدم قدرة المواجهات الدوليّة للإرهاب على وضع حدٍّ لمثل هذه الممارسات، رغم الحشد العسكري والمعلوماتي الهائل الذي لم ينجح في تحقيق نتيجة تتسق مع حجمه. فطبقاً للتقارير المنشورة([2]) زادت التفجيرات الانتحاريّة في أنحاء العالم عام 2014 بنسبة 94%، 45% من هذه الهجمات تمَّت في العراق، حيث قتل نحو 3400 شخص في عام 2014، مقارنة مع 2200 في عام 2013، بزيادة قدرها 37.5%. كان هناك 592 تفجيراً، مُقارنة مع 305 في عام 2013. كما ارتفع المعدل الشهري للهجمات الانتحاريّة التي تقوم بها "داعش" في سورية والعراق إلى أربعة أضعاف.
ففي حين بلغ عددها 27 عمليّة في سبتمبر 2015 وصلت إلى 112 عمليّة في مارس 2016. كما ارتفع عدد الوفيّات الناجمة عن عمليّات إرهابيّة من 15309 في 2014 إلى 17476في 2015 بنسبة 14%.
وهذا يدفع إلى التساؤل حول دوافع أصحاب مثل هذه الأفكار والممارسات والعوامل المغذّية لاستمرار مثل هذه الأفكار في المجتمع، وهذا ما يحاول تفكيكه د. إبراهيم الحيدري في كتابه: "سوسيولوجيا العنف والإرهاب" الصادر عن دار الساقي عام 2015. والذي يسعى إلى التحليل الاجتماعي لظواهر العنف والإرهاب باعتبار أنَّه الوسيلة الأكثر صلاحيّة لتفسير وتفكيك مثل هذه الظواهر الخطيرة المتمدّدة عبر جميع المجتمعات.
النقطة المركزيَّة التي يتمحور حولها الكتاب هي التأكيد على أنَّ التحليل السوسيولوجي والسيكولوجي يشير إلى أنَّ الإرهابيّين وممارسي العنف لا يولدون هكذا بالضرورة، وإنَّما يصبحون كذلك بفعل عدّة عوامل بيئيّة واجتماعيّة ودينيّة مختلفة. لذا من الضروري دراسة هذه العوامل التي تنتج هذه الظاهرة أو تدفع إليها. ومن خلال هذه المركزيّة يسعى المُؤلف إلى تفكيك أطروحات العنف والإرهاب ودور الأديان والفلسفات والثقافات المتعدّدة في تغذيتها، والتنظير لها والتفاعل معها، وكذلك السياقات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والنفسيّة في فهم مثل هذه الظواهر. ممَّا يعطي هذه الدراسة بُعداً مقارناً يوضح الكثير من أبعادها وخلفايتها، وهو ما يناقشه المؤلف في فصول الكتاب الخمسة، وما نعرضه عبر ثلاثة محاور مركزيّة تتعلق بدلالات المفاهيم المرتبطة بظواهر العنف والإرهاب وبأثر الدين والسياق الاجتماعي فيها.
العنف
بالنظر إلى مفهوم "العنف" نجده اكتسب دلالات جديدة بارتباطه بالمعنى الحقوقي الحديث وأصبح قريباً من معنى القوَّة والشدَّة، وهو ليس مجرَّد فعل إرادة، بل يتطلب وجود شروط وظروف مسبقة وممارسة له ومن أهمّها: السلطة والقوَّة وأدواتها القمعيّة وتبريراتها الأيديولوجيّة التي تستمدّ منها المشروعيّة. ويُعرّف الكتاب العنف إجرائيّاً على أنَّه الاستخدام غير المشروع للقوَّة الماديَّة بأساليب متعدّدة لإلحاق الأذى بالأشخاص والجماعات وتدمير الممتلكات، كما ينطوي هذا السلوك على الاستخدام غير المشروع للقوَّة الماديَّة، لأنَّ العنف في جوهره نفي للأساس القائم على العقل والحكمة التي تغرس في الإنسان النزعة الإنسانيَّة الرشيدة.
وكمحاولة لتفسير ظاهرة العنف يشير الكتاب إلى وجود ثلاثة اتجاهات نظريَّة رئيسيّة تساعدنا في تحقيق ذلك وهي:
أولاًالمدرسة البيولوجيّة: وهي تقوم على نظريّة تسعى إلى تحليل الطبيعة البشريّة والسلوك الإنساني بواسطة دوافع السلوك التي تنطلق تلقائيّاً من قوَّة الغرائز البيولوجيّة. وكان تشارلز داروين أوَّل من طوَّر هذا المفهوم وتبعه آخرون - مثل فرويد ولورنس - رأوا أنَّ غريزة العدوان تنبع من دافع بيولوجي داخلي يدفع بالمرء إلى سلوك عدواني على الغير - سواء بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة - وفي جميع النشاطات والميادين. وفي تفسير العنف نجد من يفسّره بدافع العدوان بدلاً من غريزة العدوان، فالغريزة تفيد وجود طاقة عدوانيّة تولد بصورة تلقائيّة، في حين أنَّ الدافع العدواني يُفيد أنَّ العدوان ينشأ من حافز أو دافع يُثار من حافز خارجي يهدف إلى إيذاء الآخر أو إلحاق الضرر به. وبالرغم من ماهيّة هذا الدافع ومصدره ما زال دون تفسير، خاصَّة مع غياب فروق جذريّة بين نظريتي الغرائز والدافع العدواني. كما جرت محاولات أخرى لربط العنف بنشاط الغدد التي يفرزها الجسم وكذلك الكروموزومات، مؤكّدة على الاتجاه البيولوجي الذي يعطي الدور الجوهري للعوامل الوراثيّة والخصائص والأشكال المورفولوجيّة للفرد.
ثانياًالمدرسة النفسيّة: تعود أغلب النظريّات التي تفسّر العنف إلى مدرسة التحليل النفسي التي أسّسها "سيجموند فرويد" وآرائه بصدد غريزة العدوان. ويتفق أغلب علماء التحليل النفسي على أنَّ العنف والعدوان ليسا مجرَّد دافعين للتدمير أو لعقاب الذات، بل هُما طاقة عقليّة عامّة، ويلعبان دوراً هامّاً في الصراعات العقليّة، وبدرجة تُماثل الدافع الجنسي وما يُثيره من اضطرابات وصراعات نفسيّة وسلوكيّة. ويرى علماء من هذا الاتجاه أنَّ طاقة الليبيدو - الطاقة الجنسيّة - بإمكانها الاندماج مع الطاقة العدوانيّة، ممّا يُوفر طاقة إضافيّة للأنا أو "للذات".
ثالثاًالمدرسة الاجتماعية: وتنظر إلى العنف والإرهاب كظواهر اجتماعيّة خطيرة لها أسباب ودوافع متعدّدة - اجتماعيّة، ونفسيّة، وثقافيّة، واقتصاديّة، ودينيّة، وأخلاقيّة - يجب تفكيكها وتحليلها وتوضيح علاقاتها وتداخلاتها مع ظواهر أخرى. فالعنف والإرهاب ليسا سوى صنيعة المجاميع المريضة، والسلطة القمعيّة الجائرة، والعقائد الدينيّة السقيمة. ومن ثمَّ نجد نظريّات علمي الاجتماع والنفس الاجتماعي الأكثر قبولاً وأهميّة في التحليل، حيث يفسّر العنف بكونه ظاهرة اجتماعيّة تشمل جميع المجتمعات الإنسانيّة، وتنطلق في المجتمع البشري من أجل التنافس فالصراع فالنزاع، فإذا لم يُحلّ الصراع بالطرق السلميّة، فإنَّه يسبّب فعل العنف المادي والمعنوي.
وبحسب الكتاب فللعنف وجوه متعدّدة أبرزها:
العنف المضاد: هناك أساليب ترى مشروعيّة استخدام العنف باعتباره عملاً استثنائيّاً حين يُمارس للدفاع عن النفس في أوقات الخطر، باعتباره عملاً ينبثق من ظروف غير عاديّة وغير طبيعيّة فرضتها الظروف السياسيّة وحوّلتها إلى قنوات للتعبير الحاد عن الرفض والشعور بالغضب العارم المخزون.
العنف العرقي أو الإثني: وهو وليد الصراع بين الأعراق والإثنيّات والأديان والمذاهب والطوائف والأقليّات المختلفة حول الحقوق والواجبات وتطبيق حقوق الإنسان. وما يميزه هو تعميقه لحالات الصراع والانقسامات بين المكوّنات الاجتماعيّة المتعدّدة وعلاقتها ببعضها بعضاً، وكذلك إحداث احتقانات اجتماعيّة مستمرّة تنتج بدورها أزمات وتأزّمات سياسيّة متواصلة، تدفع في أحيان كثيرة إلى تعميق التطرّف والتشدّد والصراع بين الهويّات.
العنف الديني: والذي يأخذ شكل إرهاب دموي، حيث يلعب الخطاب الديني المتطرّف بشقيّه التكفيري والسياسي دوراً خطيراً في التفرقة بين طوائف المجتمع والصراع بينها وزرع الكراهية والعنف بين شرائح المجتمع المختلفة سواء في داخل الدين الواحد أم بين طوائفه ومذاهبه المتعدّدة، خاصّة في المجتمع المتعدّد الديانات والمذاهب والطوائف الدينيّة، عبر فرض أيديولوجيّة دينيّة أحاديّة الرؤية. ممّا يجعل هذه التفرقة الدينيّة تخلق بيئة حاضنة للعنف والعنف المضاد. وبما أنَّ الدين ظاهرة اجتماعيَّة تنبذ العنف، فإنَّ العنف يسجّل حضوره بصورة واضحة في سلوك الجماعات الدينيّة المتطرّفة.
العنف المقدَّس: وعلى الرغم من تضمّنه دائرة العنف الديني باعتباره أحد أوجهه، فهو في جوهره ذو طبيعة دينيّة واجتماعيّة ونفسيّة كاستخدام الشعائر والطقوس والمراسيم الدينيّة التي تصاحبها التراتيل والرقص والتعاويذ وتقديم الأضحية الرمزيّة أو غيرها، وهو عنف جماعي دوماً، وكلّ مجموعة يسيطر عليها العنف تبحث عن "ضحيّة" أو "كبش فداء". والطقس هو العنصر الدائم في جميع الانفعالات الجماعيّة، وبخاصّة الطقس الديني الذي هو عبارة عن مجموعة من الممارسات النمطيّة المتوارثة التي من الصعب تغييرها وتعديلها.
العنف الرمزي: وهو عنف من نوع غير مباشر له أسس وحواضن فكريّة، سرعان ما يتحوّل إلى عنف وشدّة، حيث يتغذّى من المنبع نفسه الذي يستمدّ منه العنف الدموي أفكاره ودوافعه وتفسيراته ومرتكزاته الفكريّة والأيديولوجيّة كذلك تفسيراته الخاصّة للنصوص. ويرى بيار بورديو أنَّ الخطاب الديني المتطرّف "الأصولي" هو خطاب رمزي يُؤوِّل النصوص الدينيّة ويُشوّهها عبر خطاب عاطفي لا عقلاني، حيث يمتلك سلطة رمزيّة تكتسب شرعيتها من مقولاتها الخاصّة ومن منطقها الداخلي ومفاهيمها الذاتيّة. كما يستمدّ شرعيته من استعدادات مُؤيديه بشكل غَيبي وانفعالي يُدغدغ الغرائز، ويُنتج تأويلات خاطئة لمفهوم الحوار الثقافي، لأنَّه مُستمد من خطاب ديني أسير الصورة الأولى البدائيّة، تتحكّم فيه ثنائيّات ساذجة كالخير والشر والإيمان والكفر والعقل والنقل، حيث ينتقل الخطاب الديني إلى خطاب إلهي يتماثل مع النص الديني المقدَّس أو يتماهى معه أو يلخّص صورة تقترب من المقدَّس وتتعالى على الواقع ولا تعترف بالمتغيّرات التي تحدث فيه.
وبالرغم من اختلاف الآراء حول تفسير العنف وأسبابه ودوافعه وأهدافه القريبة والبعيدة، فإنَّ أغلب علماء الاجتماع والفلاسفة والأنثروبولوجيّين متفقون على أنَّه ظاهرة اجتماعيّة، وأنَّه آليَّة من آليّات الدفاع عن الذات ضدّ المخاطر التي تواجه الإنسان ومن أجل البقاء والاستمرار في الحياة، وأنَّ هذه الآليّة الدفاعيّة هي إحدى الطاقات الغريزيّة الكامنة في الكائن الحي التي تستيقظ وتنشط في حالات دفاعيَّة أوهجوميَّة يستوي فيها الإنسان والحيوان على السواء.
الإرهاب
أمَّا عند البحث في مفهوم "الإرهاب"، فيشير قاموس أوكسفورد السياسي إلى غياب الاتفاق حول مصطلح دقيق لتعريفه، فمع الاختلاف الدائر حول تعريفه، إلّا أنَّه يُستخدم بصورة عامّة لوصف أساليب تهدّد الحياة تستعملها مجتمعات سياسيّة نصَّبت نفسها في حُكم أو قيادة مجاميع غير مركزيّة في دولة معيّنة. ويقدّم الكتاب تعريفاً إجرائيّاً شاملاً للإرهاب من خلال ما ينطوي عليه من انتهاك للقوانين الإنسانيّة، فالإرهاب هو كلّ عمل عنف مسلح يُرتكب بغرض سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو أيديولوجي أو ديني ينتهك المبادئ العامّة للقانون الإنساني التي تحرّم استخدام وسائل وأساليب وأدوات عنف قاسية أو مهاجمة أهداف مدنيّة بريئة دون أن يكون لذلك ضرورة ماسّة. وغالباً ما يكون عنفاً سياسيّاً باعتباره سلوكاً غير منضبط يخرج عن القيم والمعايير الإنسانيَّة، كذلك عن وسائل الضبط الاجتماعيّة العرفيّة والوضعيّة. ويجمل الكتاب مصادر الإرهاب فيما يلي: الأيديولوجيّات الدينيّة المتطرّفة، والأيدلوجيّات القوميّة الشوفينيّة، والجماعات الفوضويّة، والأيديولوجيّات اليمينيّة المتطرّفة.
استُخدم المصطلح لأوّل مرّة عام 1795 - وأصل الكلمة لاتيني TERREREE وتعني التخويف - لوصف أساليب استخدمتها مجموعة اليعاقبة السياسيّة بعد الثورة الفرنسيّة، كما كانت تعني أساليب إسكات واعتقال المعارضين لهذه المجموعة السياسيّة التي نحت منحى يساريّاً. وفي بداية القرن العشرين كانت كلمة إرهابيّ تستخدم بصورة عامّة لوصف الأشخاص الذين لا يلتزمون بقوانين الحرب، والمُعارضين المنخرطين في منظمتي "أرغون" و"شتيرن". وفي الأربعينات استخدمه الانتداب البريطاني في فلسطين أثناء الحملة الواسعة التي قام بها للقضاء على سلسلة من الهجمات التي استهدفت مدنيين فلسطينيّين، حيث قاموا بحملة واسعة أطلقوا عليها تسمية "الحرب على الإرهاب".
ويشير الكتاب إلى أمرين تاريخيّين: أوّلهما أنَّ الإرهاب من ابتداع الثورة الفرنسيّة، حيث أعلن روبسبير سيادة حكم الإرهاب في فرنسا في الفترة الممتدّة من مارس 1793 إلى يوليو 1794، فعندما جاء اليعاقبة إلى الحكم قادوا حملة إعدامات رهيبة شملت جميع أنحاء فرنسا، وقدّر عدد من تمّ إعدامهم خلال الأسابيع الستة الأخيرة من عهد الإرهاب بـ 1366 مواطناً فرنسيّاً في باريس وحدها. إنَّ سياسة الإرهاب الثوري ظهرت بوضوح خلال حكم اليعاقبة بزعامة روبسبير وسان جوست ولجنة الأمن العام عندما حكموا فرنسا بالإرهاب الذي أكره شعباً من 27 مليون مواطن وأخضعه لديكتاتوريّة ثوريّة دمويّة متطرّفة. كما شهدت البشريّة أنماطاً كثيرة من حكم الإرهاب الثوري المشابه لحكم روبسبير بفرنسا، كما حدث الأمر في روسيا إبّان حكم ستالين، وفي ألمانيا النازيّة إبّان حكم هتلر، وفي إفريقيا الوسطى إبّان حكم بوكاسو.
كما ينفي المؤلّف أن يكون الإرهاب في مظاهره وأشكاله الحديثة ظاهرة جديدة في العالم، فقد انفجرت أوّل قنبلة زرعتها إحدى الجمعيات الأيرلنديّة في لندن عام 1883، ووقع أوّل هجوم انتحاري على رئيس وزراء روسيا عام 1878، وأوّل شحنة ديناميت وضعت في طائرة كانت عام 1907 من قبل المتطرّف بوريس سافنكوف. أمّا انفجار أوّل سيارة مفخخة، فقد كان في وول ستريت في نيويورك عام 1920.
وفيما يخصّ التفرقة بين الإرهاب والعنف، يُشير المُؤلف إلى أنَّ الإرهاب عنف مُقنّن يهدف لتحقيق أهداف محدّدة، تقوم به منظمات غير حكوميّة غالباً، كما يستخدم وسائل وأدوات متعدّدة لتحقيق أهدافه، ومنها: تهديد العدو المقابل وإيقافه عند حدّه أو الانتقام منه لكسر شوكته وتدميره من دون استخدام قواعد ومعايير أخلاقيّة. هذا النوع من الإرهاب غير مشروع وغير أخلاقي، لأنَّه موجّه ضدّ المدنيّين والممتلكات العامّة والخاصّة. أمّا العنف المشروع، فهو عنف محدّد وموجّه نحو هدف أخلاقي هو تحرير الوطن من الاحتلال والاستغلال والتخلص من الظلم والقمع أو الدفاع عن النفس، وهو عنف مضاد وردّ فعل على أعمال عنف وإرهاب تقوم بها منظمة سياسيّة أو دولة ضدّ دولة مُعتدية أخرى.
وفيما يتعلق بأسباب الإرهاب فسوسيولوجيّاً، نجد العنف والإرهاب غالباً ما ينشآن في فترات التغييرات والتحوّلات الجذريّة والسريعة بسبب الاضطرابات الاجتماعيّة والسياسيّة والتطلعات المستقبليّة. ويُشير الكتاب إلى العوامل المتعدّدة المرتبطة بتعدّد وتنوّع واختلاف المواقف والمصالح والأهداف التي يتخذها الإرهابيون، فهناك أسباب للإرهاب مُباشرة في مقدّمتها العوامل السياسيّة والدينيّة والعرقيّة، أمّا الأسباب غير المباشرة، فتتمثل في العوامل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. كما تقف الأسباب السياسيّة الداخليّة والخارجيّة وراء أكثر أعمال العنف والإرهاب خصوصاً في الدول الاستبداديّة الشموليّة بسبب الفقر والجهل وعدم المساواة وغياب التفاهم والحوار الديمقراطي وعدم مشاركة جميع الطبقات والفئات الاجتماعيّة في الحكم، وبخاصّة أوقات الأزمات والكوارث والحروب والصراعات الطبقيّة. كما تعتبر الحروب والمنازعات الأهليّة أهمّ أسباب انفجار العنف والإرهاب السياسي.
ويحرص الكتاب على الإشارة إلى اختلاط مفهوم الإرهاب بصور أخرى من أعمال العنف تتفق معه في بعض الخصائص، بالرغم من أنَّها تختلف معه اختلافاً جوهريّاً، ومن أبرز هذه المفاهيم:
الحركات السياسيّة الثوريّة التي ظهرت في روسيا خلال الصراع مع الحكومات الأوتوقراطيّة - الاستبداديّة في منتصف القرن التاسع عشر، واستمرّت حتى الثورة البلشفيّة عام 1917. وكان في مقدّمتها ما قامت به منظمات "الإرادة الشعبيّة - نارودنايا فوليا" التي تشكّلت عام 1879 و"الأرض والحريّة - زيمليا إي فوليا التي تشكّلت عام 1876.
الحركات الفوضويّة: Anarchism: وهي مذهب فكري أساساً يعود إلى الأيديولوجيّة الفوضويّة التي سادت في القرن التاسع عشر ودعت إلى نشر الأفكار الاشتراكيّة الطوباويّة التي تزعّمها تيّاران رئيسيّان هما: تيار الفوضويّة الفرديّة الذي دعا إليه كاس شتيرنر (1856 - 1906)، وتيار الفوضويّة الاجتماعيّة الذي دعا إليه كلٌّ من المفكّر الفرنسي جوزيف برودون (1865 - 1806) والمفكّر الروسي باكونين. وتقوم النظريتان على رفض السلطة بمختلف أشكالها، مُنطلقين من أنَّ كلّ تنظيم إداري وقانوني لا بدَّ أن يحدّ من حريّة الفرد، لأنَّ كلّ سلطة تقوم على الإكراه يجب محاربتها، لأنَّها تبني وتهدم في وقت واحد، وهو ما يسبّب الفوضى العارمة والتفكّك والانحلال الاجتماعي. لذلك فإنَّ الفوضويّة تهدف إلى بناء نظام جديد ومستقر يقوم على أساس الحريّة والتضامن. وتنكر جميع الحركات الفوضويّة سلطة الدولة، وفي الوقت ذاته ترفض الديمقراطيّة والتمثيل البرلماني. ولعلّ أهمّ وأخطر ما فيها إيمانها بالإرهاب وسيلة لهدم الأمّة الاجتماعيّة القائمة بجميع أشكالها.
الحركات الثوريّة اليساريّة: وتهدف إلى إحداث تغييرات جذريّة في المجتمع وفي توزيع السلطة والثروة والمكانة الاجتماعيّة، حيث تعمل على تغيير النظام الاجتماعي ـالسياسي القائم، وتتعدّى أهدافها الإطار المحلي إلى العالمي لتحقيق الثورة العالميّة، كما هي في الحركات الثوريّة ذات الطابع الاشتراكي التي تهدف إلى تقويض أسس المجتمع الرأسمالي ووضع حدّ ونهاية لسلطة الشركات متعدّدة الجنسيات التي تهمين على المجتمعات الرأسماليّة. وكان ظهورها في النصف الثاني من القرن العشرين في إيطاليا وألمانيا واليابان.
حرب العصابات Guerrilla warfare - أو العصيان المدني المسلّح - التي تعتبر من الحروب التي تتخذ بصورة خاصّة من الغابات والأحراش والمناطق الريفيّة مسرحاً لعملياتها، ويختلط مفهومها مع مفهوم الإرهاب من حيث تشابهها مع العمليات الحربيّة من وجوه عديدة. في حين يكون الاختلاف في التكوين والتدريب والتنظيم والتسليح ومن حيث الفلسفة التي يقوم عليها. وقد اتخذت بعض حركات التحرّر الوطني والمقاومات الشعبيّة في كثير من الأحيان صورته. ويعود المفهوم إلى ماو تسي تونغ الذي رأى أنَّ تطبيق سياسة ستالين وأفكاره حول تكتيك الجبهة المتّحدة أدّى إلى إجهاض الثورة في كانتون وشنغهاي عام 1936، وسعى إلى إقناع القادة الشيوعيين بالصين بعدم جدوى استخدام العقائد الحربيّة بصورة آليّة، والبديل هو استخدام قوانين الحرب الثوريّة التي تستطيع تحويل جموع الفلّاحين إلى ثوّار.
- الجريمة المنظّمة: وتعرف على أنَّها ثمرة اتفاق إجرامي بهدف الحصول على أكبر قدر من الثروة وبأساليب مجحفة، وهي تنظيمات جماعيّة تتكوّن من أشخاص أو جماعات تستخدم جميع وسائل العنف من أجل الحصول على المال والسلطة بشكل غير مشروع عن طريق ارتكاب نشاطات إجراميّة عديدة كالقتل والاغتيال والنهب، كذلك نشاطات إجراميّة كالدعارة والتجارة بالمخدّرات والسلاح. ويرجع تاريخها إلى القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وتتميز بأنَّها تقوم على تنظيم هرمي متدرّج وتوزيع كامل للأدوار والمهام وأساليب العمل، كما تتّصف بنظام سرّي يخضع له جميع أعضائها.
الدين والمجتمع
في سعي الكتاب للإجابة عن تساؤل هام هو: هل يولد الإرهابي بالضرورة إرهابيّاً؟ نجده يربط الجواب بأدوار منظومات الدين والقيم والمجتمع. فطبقاً للتحليل السوسيولوجي للإرهاب يشير المؤلف إلى أنَّ الإرهابي لا يولد إرهابيّاً بالضرورة، وإنَّما يصبح كذلك بفعل عوامل بيئيّة واجتماعيّة وسياسيّة ودينيّة مختلفة، لذا من الضروري دراسة تلك العوامل. لهذا نعتبر أنَّ التحليل الاجتماعي للعنف والإرهاب هو الأكثر قبولاً، لأنَّه يفسّرهما بكونهما من الظواهر الاجتماعيّة الخطيرة التي تشمل جميع المجتمعات، انطلاقاً من التنافس على المصالح التي تؤدّي بدورها إلى الصراع والتنازع. وإذا لم يحلّ الصراع بالطرق السلميّة والقانونيّة، فإنَّه يسبّب عنفاً ماديّاً أو معنويّاً، ويظهر في شكل الحروب والأعمال الإرهابيّة والتسلط الفردي والجمعي والقمع بجميع أشكاله، وبهذا يشكّل العنف والإرهاب القطيعة الوحيدة في سيرورة التقدّم المجتمعي والحضاري.
إنَّ الإشكاليّة الرئيسة التي ترتبط بالإرهاب هي أنَّه أعلى أشكال العنف وأخطرها، لأنَّ أغلب وسائله وأدواته غير مشروعة ولا أخلاقيّة، وهدفه التخلّص من العدو بكلّ السبل الممكنة، كالقتل والإبادة الجسديّة والإهانة والتدمير الذاتي، كما أنَّ الإرهاب، كأعلى أشكال العنف السياسي، لا يمسّ الفرد بل المجتمع والجماعة التي تعيش فيه، فالإرهابي يتربّى على ثقافة العنف التي يفرضها المجتمع عليه. غير أنَّ إشكاليّة العنف الرئيسة تتوقف على شرعيّة استخدام العنف باعتباره عملاً استثنائيّاً حوّلته الظروف غير الطبيعيّة إلى قناة للتعبير الحاد والإشباع التلقائي للشعور الغاضب المنفعل غير المتقيّد بقواعد وقيم ومعايير أخلاقيّة.
ومن الإشارات الهامّة في الكتاب أنَّ معظم الإرهابيين من الطبقة الوسطى، وأنَّهم تلقوا تعليماً حديثاً ولم يتعرضوا إلى غسل دماغ. ويورد المؤلف عدّة أسباب توضّح سرّ انجذاب الشباب إلى الجهاد أبرزها: تفاقم الخلل الأساسي في التعاقد الاجتماعي القائم على مُقايضة حقوق المواطنين السياسيّة والمدنيّة برفَاههم الاجتماعي، وتقويض برامج التحرّر الاقتصادي أنظمة الرعاية الصحيّة وإلغاء ضمانات التوظيف في القطاع العام دون تقديم بدائل، وعدم تعزيز الحكومات الاستثمارات في القطاعات الإنتاجيّة، وغياب الحريّة السياسيّة وسوء الحكم والفساد وانعدام المساواة. كما اصطبغ القمع القاسي للحراكات الشعبيّة بصبغة أيديولوجيّة أو طائفيّة، ممّا فاقم الصراع المجتمعي وأجّج الاستقطاب الاجتماعي والتوترات الطائفيّة، وهو ما عمّق بدوره شعور التهميش في النفوس، وأخيراً غياب الثقة في الغرب. وجدير بالذكر أنَّ تراكم الضغوطات الاجتماعيّة على الفرد قد تُؤدي في كثير من الأحيان إلى انحراف الفعل الاجتماعي عن المنظومة القيميّة والمعياريّة التي تتحكّم في مسيرة المجتمع، وتسبّب بالتالي ارتفاع معدّلات العنف أو ظهور أنماط جديدة من العنف للتفريج عن التوترات الاجتماعيّة والنفسيّة. وحسب علماء النفس الاجتماعي فالعنف والإرهاب يمثلان الناتج التلقائي للشعور بالإحباط الذي ينشأ عن الصدمة الناتجة عن عدم تحقيق الأماني والطموحات لسبب أو لآخر.
وبحسب الكتاب فإنَّ كثيراً من علماء النفس يشير إلى غياب العلاقة بين الإرهاب الديني والقومي والمذهبي، لأنَّ من يمارس الإرهاب له مواصفات سيكولوجيّة عامّة، فهو مصاب بالعمى حيث لا يرى من الحقيقة سوى وجهة واحدة هي ممارسة القتل. وهذا يدفعنا إلى البحث في طبيعة العلاقة بين جوهر الدين الذي يقوم على التسامح، وبين العنف الديني الممارس من قبل الجماعات الدينيّة المتطرّفة. وبحسب علماء الاجتماع فإنَّ الدين ظاهرة اجتماعيّة خاضعة للتغيير كباقي الظواهر الاجتماعيّة، حيث ينزع إلى التطوّر والتغيير، وقد يتحوّل إلى أدوات سياسيّة بيد السلطة الحاكمة حين ترتبط المؤسّسة الدينيّة بالدولة.
ويشهد العصر الحديث ولادة جماعات دينيّة سلفيّة متطرّفة ترعاها دول ومؤسّسات سياسيّة، كتنظيم القاعدة الذي أصبح تنظيماً عالميّاً يتبنّى الإرهاب منهجاً وطريقة للسيطرة والنفوذ، ويلجأ إلى تأويلات متشّددة ومزاجيّة متحيّزة ومصلحيّة للنصوص الدينيّة والأحداث التاريخيّة المغايرة لجوهر الدين القائم على الخير والتسامح بين البشر، متزامناً مع إصدار فتاوى علنيّة وغير علنيّة من دُعاة الدين ووعّاظ السلاطين للتحريض على العنف والإرهاب، بحيث يتحوّل الدين إلى واجب إلهي مقدَّس يدفع إلى العنف والإرهاب. ورغم احتواء الأديان السماويّة على عشرات النصوص الداعية إلى نشر المحبّة والتسامح بين البشر، فالتساؤل مستمرٌّ معنا حول الدوافع التي تقف وراء ممارسة العنف من قبل المؤمنين بهذه الأديان وشروط تشكيل العنف الديني وانتشاره في العالم.
يؤكّد المؤلف في نهاية هذا العرض على أمرين: الأوّل رفض عدد كبير من علماء الاجتماع الإقرار بأنَّ العنف كامن في جوهر الدين أو أنَّ الدين عنيف بطبعه، مع الإقرار بما يتركه العنف الممارس باسم الدين من تصوّرات سلبيّة تلعب وسائل الإعلام والأيديولوجيّات المضادّة للأديان على ترسيخها في أذهان الناس عن العنف الديني، فالواقع الملموس يشير إلى العلاقة القويّة بين الدين والعنف، حيث يشهد العالم اليوم تحوّلات بنيويّة عميقة التأثير في المجتمعات، وفي مقدّمتها صياغة الديني بلباس سياسي. أمّا الأمر الثاني، فعلى كثرة الدراسات السيكولوجيّة التي أُجريت على عيّنات من الإرهابيين، فإنَّه من النادر أن يعاني هؤلاء من أمراض نفسيّة - ما عدا نسبة قليلة منهم تعاني من اضطراب الشخصيّة التي تتميّز بممارسة العنف المفرط - والعامل المشترك الذي يجمع بينهم هو إيمانهم العميق ويقينهم المطلق بأيديولوجيتهم الدينيّة المتطرّفة، وكذلك يقينهم المطلق بصحّة وعدالة ما يقومون به من أعمال إرهابيّة، دون التفكير فيما يترتّب على أعمالهم تلك.
للكتاب أهميّة كبيرة في فهم ظاهرة العنف، وإن كانت لنا تحفظات على بعض الاستطرادات التي تطرّق إليها الكاتب في سبيل مزيد من الشرح لأفكاره، إلّا أنَّه تسبّب بتوسّعها بعض التشتيت للقارئ بالدخول في تفاصيل بعيدة عن الفكرة العامّة لفصول كتابه.
[1]- نشرت في كتاب "الجهاد" منشورات مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث سنة 2018، إشراف بسام الجمل، تقديم أنس الطريقي.
-[2] من أبرز تلك الدراسات: دراسة لمعهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب - يناير 2015 - على الرابط التالي: www.haaretz.com/israel-news/.premium-1.635193، تحليل نشره موقع Vocativ في أبريل 2016 - متوافر على الرابط التالي: www.vocativ.com/305613/will-isis-ever-run-out-of-suicide-bombers Global Terrorism Index ,2016.

01:52   12/04/2019.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل معيار الحقيقة العمل النافع أم تأمل الإنسان لعالمه الداخلي؟

السؤال:برر الأطروحة القائلة أن:"الرياضيات مطلقة"

هل الذاكرة ذات طبيعة مادية أم نفسية؟